سلسلة القصص الرعب (الحزء 1 ) من يوسف البرق :) 2013 2014 2015
- - - - - - -
www.dream-cafeh.net
- - - - - - -
سلسلة القصص الرعب (الحزء 1 ) من يوسف البرق 
حصريا على دريم كافيه
2013 - 2014 - 2015 - 2016
السلام عليكم و رحمة الله و بركاتة ال بوم سوف ابدء معكم سلسلة القصص الرعب التى ارعبت الكثيرين و هى مكونه من عدة اجزاء كل جزء مكون من قصتين و بسم الله الرحمن الرحيم لنبدء =Dالقصة الاولى : القصة الحقيقية قربان مقبول[IMG]http://4.bp.*************/-LcdI4B-Mm5U/UhPACcV4GYI/AAAAAAAAAHs/KLt1heN2zxA/s320/korban-3.jpg[/IMG]على الطريق الزراعي، وكأنما قد عمل عملة، يتسلل الميكروباص متسترًا في جنح الليل، ركّابه شبه نائمين، كما أنهم ليسوا متيقظين، في حال أقرب إلى السطل، وسائقه قد أصابه الصداع من جراء الأغاني الشعبية، ولم يجرؤ على إغلاق الكاسيت مخافة الوقوع في النوم، فلجأ إلى تشغيله بصوت خفيض.البرد قارص، و عماد قد ضم طرفي سترته عليه، إنها سترة من جلد طبيعي، وهي قطعة قيّمة جدًا لزوم العمل، فكيف يمر عبر عشرات المكاتب من الأمن وخدمة العملاء والسكرتارية ويدلف إلى مكتب عميل VIP ما لم يكن مظهره لائقًا؟ ومن حسن الطالع أنها تنفع في أيام البرد كذلك.ولكنه لا يريد أن يفكر من جديد في العمل، كما لا يريد أن يفكر في أسرته في القرية التي سيعود إليها خالي الوفاض بعدما لم يتمكن من بيع شيء هذا الأسبوع، ولا يريد أن يفكر في والد خطيبته الذي سيخبره أن مهلته قد انقضت وخطبته انفسخت. فقط يريد أن يفكر في ملوخية أمه الشهية وسريره الدافئ، أراح رأسه إلى النافذة، وسيكون رائعًا لو استغرق في النوم. تسقط رأسه نائمًا، يصحو منتفضًا إثر فرملة مفاجئة، يصعد ثلاثة رجال إلى الميكروباص يحمل كل منهم لفافة فيحتلون الكنبة من خلف عماد، يطلق في نفسه سبة بذيئة، ويعاود إراحة رأسه إلى النافذة فيما يتحرك الميكروباص من جديد.- أنا خائف يا ناجح..- لا تخف يا راضي، الأمر بسيط، فبمجرد أن نصل إلى ضيعة أبو الفداء سنسلم ما لدينا، وننتظر اختياره لأحدنا.يتسلل الحوار إلى أذن عماد من الكنبة الخلفية، فيحك أذنه ويحاول استدعاء النوم.- وهذا ما أخشاه، ماذا لو لم يعجبه قرباني ولم يخترني بعدما بت أحلم بالسلطة المطلقة التي ستكون لي، والقوى الخارقة التي سأملكها، وبوابات العالم التي ستفتح لي، سيكون من القسوة ألا يختارني بعد كل هذا.- كن منطقيًا يا راضي واعترف أن فرصتك ضعيفة، أنت صديقي ولكني لن أخدعك، وأنت لن تكون أفضل مني، أو قلبك أكثر موتًا من قلبي، أو قربانك ـ مهما كان ـ سيكون أفضل من قرباني. وعلى كل حال، أنا لن أنسك حين أصير رجله المُختار وسينالك جانب من العز والجاه والسلطة.يقتحم الحوار أذنه، فيرهف السمع. يتدخل صوت ثالث:- دومًا ما تظن نفسك أذكى من الجميع يا ناجح، وهذا هو الاختبار الحقيقي لذكائنا جميعًا.- بل أنت دومًا تنزعج مني يا خلف، دومًا تعارضني وكأنني وُلِدت فوق رأسك، على أي حال، دعك من هذا وأخبرني ما الذي أحضرته؟- ألم أقل لك أنك تظن نفسك أذكى من الجميع، ألم ينبهنا عتريس إلى عدم الإفصاح عن قرابيننا كي لا تفسد؟- وأنا قلت لك أنك دائم سوء الظن بي.يطير النوم تمامًا ويتقد ذهنه. يتدخل الصوت الأول:- يا جماعة اهدءوا، هل يجب أن تتشاجرا في كل لحظة هكذا؟ إن ما يشغلني لهو شيء آخر، أسمعتم ما قاله عتريس عن الخطوة الأخيرة؟ إن هذا بشع ولا أتصور أن يقع لي أو لأحد منكم.- هذه هي التعليمات ولقد قبلنا بها، وإذا كان هذا هو الثمن للحصول على القوة المطلقة فبالتأكيد إن أحد منا لن يفرّط، إنها فرصة والفرصة لا تأتي مرتين.يتوقف الميكروباص إلى جانب، يتوقفون عن الحديث وينظرون إلى رجلين على الطريق يحمل كل منهما لفافة، أحدهما ـ وهو ضخم ـ رفع حاجبه إلى الأعلى، والآخر ـ وهو وسيم ـ أزاح شفتيه في شبه ابتسامة، وتبادلا مع رجال الكنبة الخلفية نظرة وهزّة رأس، قبل أن يصعدا إلى المقعدين الأماميين جوار السائق. أما ما قد استوقف عماد فهو تلك اللفافة الهزيلة بيد الوسيم، هل يمكن أن تؤدي ’هذه‘ الغرض؟ لابد أنه واثق جدًا وإلاّ لاهتم لحجم لفافته كالآخرين.يحاول رجال الكنبة الخلفية أن يعاودوا الحوار، يتمنى عماد لو يعاودوا الحوار، غير أن القلق أو رهبة ما هم مقدمين عليه كان قد ألجم أفواههم.على مسافة ليست ببعيدة، وقبل أن ينحرف الطريق الزراعي، يشير الرجل الضخم في المقعد الأمامي إلى السائق أن يتوقف، فينزل مع زميله، وينزل معهما رجال الكنبة الخلفية، وقبل أن يتحرك السائق، يطلب عماد من جاره أن يخلل له ممرًا، وينزل من فوره على إثرهم.ينظر الرجال خمستهم إلى عماد، يضمم عماد سترته عليه فيما ينطلق الميكروباص مبتعدًا.يتبادل الرجال نظرة مع بعضهم، ثم يجدّون السير نحو أحراش على جانب الطريق، يسير عماد على بعد مسافة قصيرة من خلفهم. يدير ناجح رأسه إلى الخلف فيجد عماد مقبلاً عليه. يتوقف ويستدير إليه:- أنت تتبعنا إذًا؟- أنا لا أتبعكم، أنا ذاهب إلى ضيعة أبو الفداء.ينظرون إلى أنفسهم متعجبين، ويبادره راضي:- هل تعرف عتريس؟- نعم.يسأله ناجح بتشكك:- فأين المطلوب؟يضرب على سترته الجلدية ويقول:- في الحفظ والصون!- في جيبك! إنه صغير جدًا، وهل يصلح هذا؟- ليست مسألة حجم، وها هو صاحبكم يحمل لفافة أصغر.يهز ناجح رأسه، ويسأل في تذاكٍ:- صحيح، وما هو؟- ومن قال أني قد أخالف تعليمات عتريس وأخبرك؟- حسنًا.يقولها باقتضاب، ثم يضرب على كتف عماد ويقول بينما يستدير:- تعالَ معنا.يتوغلون داخل الأحراش يتبعهم عماد، ينعق البوم فيرتجف راضي أول من يرتجف، تثبته يدا ناجح في مكانه، ويواصلا التقدم، ومن بعيد تتوهج الضيعة تحت ضوء القمر المكتمل، خطوة بخطوة في الممر الضيق نحو الضيعة، وكأن الأشجار تنحني قليلاً، وكأن الأطيار تفر بعيدًا، وينزوي القمر.على الباب، يتوقف أولهم فجأة فيرتج الطابور من خلفه. يميل الرجل الوسيم ذو الابتسامة الساخرة فيلتقط مفتاحًا من أسفل دوّاسة القدم، ثم يرفعه بوجوههم قائلاً:- ها هو! من سيدخل أولاً؟ثم تراقصت ابتسامته الساخرة إلى اليمين وإلى اليسار.. لم يتبرع أحدهم للمهمة، فمد يده بالمفتاح يودعه يد خلف، وهو الأقرب إليه موضعًا، فانتفض، ثم تشجع فطوى لفافته تحت ذراعه، وأدار المفتاح في الباب، وقبل أن يفتحه ارتد للوراء وارتج الدم في عروقه إثر شهقة عالية. تصلّب الجميع في مواضعهم للحظة، ثم التفتوا إلى مصدر الشهقة: كانت طفلة صغيرة ومن خلفها بعض صبية على جانب من الممر، اقتربت الطفلة خطوتين وقالت بلهجة عاتبة:- ما الذي تفعلونه؟ ألا تعرفون أن الضيعة مسكونة؟حدجها الرجل الضخم ذو الحاجب المرتفع بنظرة شرسة، وقال آمرًا:- لا شأن لكِ، خذي رفاقك وانصرفي.لكنها لم ترتح إلى هذا الحل دون أن تؤكد الأمر:- وكيف أنصرف دون أن أعلمكم أن الضيعة مسكونة؟انفلتت أعصاب الرجل الضخم، فانقض يقطع المسافة تجاهها في خطوتين، توارى خلالهما الصبية خلفها، وقبل أن تعي ما يحدث هوى بكفه الغليظة فوق خدّها مؤكداً:- قلتُ لكِ أن تنصرفي.اشتعل غضب عماد ثأرًا للطفلة، وركض تجاه الرجل الضخم فدفعه عنها ملقيًا به أرضًا:- كيف تمد يدك على طفلة صغيرة؟واحتوى الطفلة بذراعه، هب الرجل الضخم واقفًا عازمًا على النيل منه، فأسرع الجمع من فورهم يحجمون الرجل الضخم ويحولون بينهما ملقين بعبارات التهدئة، لا يعيرهم عماد اهتمامًا، يُنزل كف الطفلة عن وجهها فيرى آثار الضربة على خدّها، يربّت على كتفها، فترفع إليه عينًا متلألئة بالدموع وتقول:- صدّقني الضيعة مسكونة.- أعلم.- بل صدّقني الضيعة مسكونة، أنا وإخوتي نسكن بالجوار، وكل من يسكن هنا يقول أنه رأى شيطانًا.- أصدّقك، ولكنك يجب أن تأخذي إخوتك وتعودي للمنزل الآن حالاً، حسنًا؟- ولكن...قاطعها:- ما اسمك؟- سارة.- هيا يا سارة.- وأنت ما اسمك؟- عماد.- انتبه لنفسك يا عماد.ثم تمسك بأكف إخوتها، وترتد مبتعدة.يرمق الرجل الضخم ذو الحاجب المرتفع عماد بنظرة حقد، ثم يتقدم. وعلى الباب، يتولى ناجح ـ مشكورًا ـ قيادة المجموعة فيحفظ وقتًا ثمينًا من التعازم، يدير المفتاح في الباب، ويدفعه.يطالعهم ظلام غير مكتمل، تتراقص فيه الخيالات. يتناول ناجح كشافًا، ويمضى يشق طريقه يتبعه الآخرون، وكأنما يتحدث إلى نفسه، يقول بصوت خفيض:- قال عتريس القاعة في آخر الممر، ليس من مجال للتيه.تلاعب خيالاً عملاقًا باتجاهه، فخرج منه الصوت أقرب للنساء:- وقال ألا نلتفت للخيالات!وفي آخر الممر، كانت القاعة الموصوفة فسيحة جدًا ومقبضة، وفور دخولها، توجه ناجح إلى أحد الأركان فوضع الكشاف جانبًا وأشعل عود ثقاب، وباستخدامه أشعل شمعات شمعدان:- كل شيء كما وصف عتريس بالضبط.ثم اتجه إلى ركن آخر يشعل شمعات أخرى، وتولى خلف إضاءة الركنين الباقيين، وحين توهجت الشمعة الأخيرة بالنار اتضحت ملامح القاعة:إنها قاعة مستطيلة على جانبها الأيمن نافذة، وفي مقدمتها مكتب عملاق من خلفه كرسي جلدي فخم، وإلى أمامه مقعدين. وفي المنتصف هناك تمثال لخليط من الحيوانات أو شيء ما، ومن حوله دائرة من خمسة مقاعد. وبشكل تلقائي، توجه كل منهم إلى أحد مقاعد الدائرة، وبقي عماد متأخرًا في الخلف.جالسين إلى المقاعد، واضعين لفافاتهم فوق أفخاذهم، ثم مديرين رؤوسهم تجاه عماد، فتحرك مرتبكًا نحو مقدمة القاعة يجلب مقعدًا من أمام المكتب:- لابد أن عتريس قد أخطأ بالعدد.أفسح له ناجح إلى جواره، ثم رفع كفيّه إلى جانبيه يبحث عن كفيّ جاريه، وحين اكتمل تشبّك الأصابع قال ناجح:- والآن، اغمضوا عيونكم، واستجمعوا تركيزكم، فهل أنتم مستعدون؟ارتجفت الرؤوس قليلاً فيما يشبه الإيماءة، فبدأ ناجح عدّه التنازلي:- ثلاثة.. اثنان.. واحدانطلقوا يرددون في صوت واحد:- أبرا-كادابرا.. أبرا-كادابرا.. أبرا-كادابراتعلم عماد كلمتهم، فردد معهم:- أبراكادابرا.. أبراكادابرا.. أبراكادابراومن النافذة المطلة على الحديقة، طرقات خفيضة، وصوت طفولي:- عماد، عماد، هل أنت هنا؟ لقد أرجعت إخوتي للبيت وعدت لك.يفتحوا عيونهم، يرسل عماد نظره إلى النافذة، ويهتف ناجح:- تبًّا!تمر لحظة صمت، يعاودون إغلاق العيون، والنداء:- أبراكادابرا.. أبراكادابرا.. أبراكادابرا- عماد، عماد، أنا أعرف أنك هنا، فاخرج من هنا سريعًا، هذا المنزل يحوي شيطانًايهب الرجل الضخم غاضبًا:- سأكسر رأسها.يوقفه عماد بإشارة من يده ونظرة حزم، ثم يثبّت نظرة الحزم على وجهه ويتجه إلى النافذة على الجدار الأيمن فيفتحها ويطل منها، تشرق لرؤيته لكنها تُصدَم من نظرته والتقطيبة فوق جبينه كما أنه يرفع حاجبه مثل حاجب الرجل الضخم:- ارحلي من هنا حالاً وإلاّ كسرتُ رأسك!تتراجع للوراء فورًا، يغلق النافذة بقوة، ويعاود الدخول في الدائرة، يتهيأ الجميع لمتابعة العمل غير أن المفاجأة تلجمهم، تتوهج عينا التمثال في وسط رأسه الذي يشبه رأس الديك، تتلوى قدماه اللتان تشبهان الثعابين، أما ما دون ذلك فهو جسد بشري على ما يرام.يشهق بعضهم، ينتفض بعضهم في موضعه، والبعض يتراجع للوراء، وتهمس الألسن أسفل العيون المتسعة:- أبراكساس! أبراكساس!يخطو التمثال الذي استحال شيطانًا من بينهم.. ينساب فوق ساقي الثعابين نحو المكتب، ثم يتخذ مقعده خلفه. ينتفض الجميع واقفين في صف قبالته، ويحنون الرؤوس.يرمق عماد هذا المشهد بأعين عمياء من موضعه بأقصى اليمين، يبتلع ريقه بصعوبة، ها قد انقلب الهزل جدًّا، أو أن الأمر كان جادًا منذ البداية، وقد غرّه نزق الشباب. إن رفاقه هنا يحملون قرابين لأبراكساس، كما أن أبراكساس هنا ينتظر قرابينه، وإنه قد تورط أكثر من اللازم، والمشكلة أنه تورط خالي الوفاض.يشير أبراكساس بعصاه نحو الأول في الصف من ناحية اليسار، فتتخبط ساقي راضي بينما يتقدم، يتوقف أمام المكتب فينزل لفافته أمامه ويحني رأسه قائلاً:- لقد جئتك يا كبير الشياطين أتودد وأتقرب إليك، حاملاً قرباني الذي انتقيته على عيني طمعًا في أن يعجبك، وكلي أمل في أن أكون رجلك الذي تعتمد عليه وتفتح له أبواب مجدك وسلطتك.أشار أبراكساس إلى اللفافة، وقال بصوت عميق يصدر من بين منقاريه:- افتحها.تعثر راضي في فتح اللفافة، واستغرق وقتًا أكثر من اللازم، ثم بالأخير أزاح الأوراق عن جثة قطة سوداء قصيرة الفرو هزيلة يتخثر الدم أسفل عنقها وترسل بصرها الشاخص إلى بعيد، وما إن بدت من اللفافة حتى قال راضي:- أعلم يا كبير الشياطين حلول شياطينك في القطط السوداء، ومهابة العامة لها، ولكني بقلبي الميت تخلصت من كل مشاعري وتتبعت قطًا بريئًا يبحث عن وجبته بين صناديق القمامة، وقبل أن يشبع جوعه قتلته متضوّعًا لأقدمه على طاولتك أيها الكبير، والأمر لك.أشار له أبراكساس أن يبتعد، وقال بصوته العميق:- الذي يليه.تقدم خلف متخبطًا نحو المكتب، فأنزل لفافته وقام بفك أوراقها بأنامل مرتعشة، ثم قال بابتسامة مهزوزة:- لا أتحدث عن القطط، أتقدم لك يا أبراكساس العظيم بقربان بشري من لحم ودم..تبدت الساق البيضاء من بين الأوراق، فتراجع خلف خطوة للوراء مكملاً حديثه:- لقد قضيت ليلتي أفكر في قربانًا يروق لك، وفي كل مرة أعجز عن التفكير ألجأ إلى الاستغراق في الرذيلة، هذه المرة وبينما أوقع بالبنية البيضاء الجميلة بين يدي وجدت الفكرة تتأجج بقوة في عقلي، وكما استمتعت بها فإن أبراكساس العظيم أولى بكل متعة، لم أنتظر أن أتم مواقعتها، ولم تكن لتكتمل لذتي بغير أن أرفع السكين العملاق فأهوي فوق ساقها الغضّة، لم تفق من نشوتها أو حتى تستشعر الألم، كان الذهول قد ألجمها عن أي شيء، وهذا عن أمري يا أبراكساس العظيم، والأمر لك.ثم تراجع إلى موضعه، مد أبراكساس عصاه يتفحص الساق أمامه، ثم رفع عين الديك تجاه ناجح وقال:- الذي يليه.تقدم ناجح في ثقة حاملاً لفافته، أنزلها إلى المكتب ونظر باستهزاء إلى اللفافات المفتوحة إلى جوارها، ورفع عينه ينظر إلى عيني الديك في ثبات، ثم قال:- أمضيتُ عمري في انتظار لحظة كهذه، لحظة أن أقف أمامك حاملاً قرباني الذي أثق بكل خلجة في جسدي أنه سيعجبك، إنه القربان الحق وليس الهراء الذي على طاولتك.يزيح الأوراق دفعة واحدة، فتتبدى رأسًا بشرية بلحية طويلة ودم متخثر أسفل العنق:- ها هو قربانك يا ملك العالم السفلي، ليست رأسًا لقطة ولا غانية، لقد أتيتك برأس ألد أعدائك، كان يحاربك في كل موضع تطؤه قدمه فوق الأرض، يحذر الناس منك، ينبئهم بحيلك للإيقاع بهم، يطرد أعوانك من أجسادهم، وكان يكرهك، وبعد أن انتهى من موعظته المعتادة، عرضت عليه أن أقلّه بسيارتي لأتبرك به وآخذ بنصيحته في أمر يخصك، ولبراءة سريرته، قبل الركوب معي، فأخذته إلى الصحراء واجتززت رأسه بينما أنظر لعينيه كما أنظر لعينيك، وها أنا أرفعها بين يديك يا ملك العالم السفلي، والأمر لك.يوميء أبراكساس برأسه، ويشير له أن يعود إلى موضعه، ويقول:- التالي.يأخذ الرجل الوسيم شهيقًا عميقًا، وبرغم هول الموقف، لا تتلاشى الابتسامة الساخرة عن وجهه، يحمل لفافته الهزيلة ويتقدم، وقبل أن يصل إلى المكتب يكون قد فض أوراقها وانعكس الضوء الشاحب فالتمع على نصل الخنجر، نقّل الخنجر يمنة ويسرة بين يديه قائلاً:- من بين مريدينك يا ملك العالم السفلي وطالبي ودّك، لن تجد، من يقبل أن يقتطع قربانك من جسده.يبسط الرجل الوسيم خنصر كفه اليسرى على المكتب، ويهوي بالخنجر فوقه فتنفجر الدماء ويتعالى صوت احتكاك النصل بالعظم يقشعر الأبدان، يتعالى معه صراخه المكتوم وتتبدى الآلام على وجهه. تتسع عيناه حتى آخر مدى ترقبان إصبعه الذي انفصل، وارتجف جسده قليلاً في موضعه، حتى اطمأن الوسيم إلى صنيعه وتراجع خطوة للخلف ماسحًا جبينه بذراعه، وقائلاً في صوت واهن:- إصبعي ووسامتي وكل جسدي فداءك يا ملك العالم السفلي، وأثق بأنك ستقدّر القطع القيّمة، والأمر لك.وفي طريق عودته إلى موضعه، تراقصت ابتسامته الساخرة من جديد، بينما ينظر إلى رفاقه بنظرة تفوق، ويترك على الأرض خيطًا من الدم، ومن خلف ظهره يتعالى صوت أبراكساس:- الذي يليه.ينظر الرجل الضخم إلى جاره الوسيم بنظرة غيرة، ينظر إلى اللفافة بين يديه بنظرة حسرة، يتعالى صوت أبراكساس مكررًا بنبرة غاضبة:- الذي يليه.يرتبك الرجل الضخم في موضعه، يكاد يتقدم لولا أن يوقفه نداءًا ناعمًا من خلف ظهره:- عماد!يلتفت في دهشة، يلتفت الجمع إلى الطفلة على باب القاعة، ويدق قلب عماد بشدة، تتقدم في دلال طفولي:- يا عماد...ثم تتوقف وتطلق صراخًا عظيمًا حين ترى أبراكساس الذي هب واقفًا من خلف المكتب، يركض عماد إليها يديرها للخارج:- اخرجي الآن، اركضيوفي لمح البصر، يلتقط الرجل الضخم الخنجر من يد جاره، ويركض إلى الطفلة فيرشق الخنجر في صدرها ويشقّه إلى نصفين.يتبدى أبراكساس خلف رأس الطفلة، يرفعها الرجل الضخم بين يديه ويوجّهها نحوه قائلاً من بين لهاثه:- هكذا يجب أن يكون قربانك يا ملك الشياطين، كنت قد جهزتُ لك قربانًا ليعبر لك عن قوة بأسي ويكون قربانك المقبول، ولكني أدركتُ الآن أنه لا يليق بك، قربان ملك الشياطين يجب أن يكون طازجًا حار الدماء، يجب أن يلفظ أنفاسه بين يدي ملك الشياطين، ولعمري هذا هو المعنى الوحيد للقربان المقبول، والأمر لك.تلفظ الطفلة أنفاسها الأخيرة بين يدي عماد، وترفع عينيها تجاهه، يحبس دمعة داخل عينه ويقول:- لماذا فقط جئتي إلى هنا!!- أصدّقتني الآن أن بالضيعة شيطانًا؟ثم تسلم روحها. يلتفت أبراكساس بحدّة نحو عماد، ويقول بصوته العميق:- الذي يليه.ثم يتركه ويتقدم نحو مكتبه.يبتلع عماد ريقه، يغمض عينيه للحظة، يخفي فيها دموعًا كثيرة بالداخل، ثم يترك جثة الطفلة ويتقدم في ثبات نحو أحد أركان القاعة يحمل شمعدانًا، وينزله فوق المكتب.ينظر إلى أبراكساس، يطلق زفيرًا من صدره، ويبدأ في خلع سترته، يتلفت الرجال نحو بعضهم، ويتساءلون عن كنه ما يفعله. يتناول السترة فيرفع بها فوق نيران الشمعدان، وحين لا تتأذى السترة يرتفع صوته الجسور قائلاً:- انظر يا أبراكساس، إنه من جلد طبيعي.يدير راضي رأسه لناجح، ويهمس:"يناديه أبراكساس من دون ألقاب"يومئ ناجح برأسه ويقول:"المراوغ! وأنا الذي ظننته يعني أن قربانه في جيب السترة!"يحمل عماد السترة فوق كتفه، ويدور يتحدث نحو صف الرجال واحدًا واحدًا:- الجميع أدرك أن قربان أبراكساس يجب أن يكون غاليًا، حتى أن أحدكم اقتطع إصبعًا من جسده، ولكن من منّا ينكر أن الذي أغلى من جسده هو جسد أمه؟انظروا إلى جلد السترة الناعم، لقد صنعته من جلد أمي بعدما قد ذبحتها وقمت بسلخها بعناية لأحصل من جلدها على قطعة تصلح لأن تعمل سترة لي، كنت نائمًا أفكر في قربان يصلح لأبراكساس، ومن فرط استغراقي بالتفكير لم أشعر بلسعة البرد الذي يتزايد ليلاً، أتتني، بغمص نومها في عينها، تطمئن إلى تدفئتي ليلاً، ورفعت الغطاء إلى عنقي، وبرقت الفكرة في عقلي، لم تكلمني، ظنتني نائمًا فلم تشأ تزعجني، واستدارت لتبتعد، غير أنها لم تبتعد، مددت يدي ثبتّها من معصمها، شهقت، ثم سألتني بحنو: "هل أنت متيقظ؟" لم أجبها، كنت مستغرقًا في الإعداد لخطتي، شددت من قبضتي على معصمها، ارتبك صوتها: "ما بك يا عمادي"، فقد كانت تدللني، قلت لها: "أريد أن أتدفأ"، فضمّت بيدها الحرّة الغطاء عليّ أكثر، لكنني أزحته وقلت لها: "ليس بالغطاء"، سألت بدهشة: "إذًا بماذا؟"، قلت بثبات: "بجلدك"اتسعت الأعين، وبدا فيها الانبهار، وعماد مستمر:- كانت تبكي وكنت أؤكد لها أنني أحتاج إلى سترة جلدية، عرضت عليّ أن تشتري لي أفضل سترة في السوق، وإن كلفها الأمر أن تستدين، لكنني رفضت وأخبرتها أن ما أريده بالضبط هو جلدها، وبرغم بشاعة الأمر فقد تفهمت، قلب الأم بصدرها لم يحتمل أن تتركني أبرد، وعرضت عليّ أن تمنحني جلدها فأصنع السترة، على أن أبقيها حيّة، غير أن قلبي الميت لم يستسغ أن أرى دائنتي كل يوم بعدما قد أخذت جلدها، فآثرتُ قتلها.التقط أنفاسه، وتعالت الشهقات إذ يقول:- كان هذا عن أمي، كنتُ بحاجة إلى جلد سترة كامل، أما عن أبي وإخوتي فلم أكن أحتج لأكثر من الياقات والأساور.عاد للوقوف أمام أبراكساس:- ومن بعد هذا كانت الدباغة والحياكة والتقفيل، وها أنا أقدم قرباني وأثق بحسن تقديرك يا أبراكساس العظيم، والأمر لك.ثم رجع يقف في موضعه أمام أعينهم المتلألئة حقدًا. يرجع أبراكساس بظهره للوراء، ثم يدور بمقعده للخلف، فيما يأتيهم صوته وكأنه يتحدث في أذن كل منهم:- خمسة قرابين مرفوضة، وقربان مقبول...تهب القطة السوداء واقفة فيما تميل رأسها على صدرها، وتموء مواء ضعيف، بينما يتحدث أبراكساس لـ راضي:- القطط السوداء شياطين متجسدة، مفهوم لا بأس به، ولكن فاتك أنك إذ تقتل قطة سوداء تقتل واحدًا من أعواني، وفي ظروف أخرى لم يكن ليكفيني عنقك، قربانك مرفوض ودمه في عنقك.تقفز القطة السوداء من فورها وتذهب تتمسح في قدم راضي، فيما تعتدل الساق البيضاء واقفة وتدبدب بقدمها فوق المكتب، ويتحدث أبراكساس إلى خلف:- ساق لطيفة جدًا قد سال لها لعابك البشري، ولكن هل تظن أن كبير الشياطين سيسيل لعابه من أجل ساق غانية؟ ولولا أن أتمالك نفسي لكنت أندمتك على إهانتك، قربانك مرفوض ودمه في عنقك.تخطو الساق في ثبات نحو خلف، ثم تصنع دوائر من حوله، بينما تنفتح أجفان الرأس عن عينين شرستين تدوران في المكان وتتوقفان على ناجح بالذات، ويقول أبراكساس:- رأس عدوي... هممم.. قربانك كان ليكون من أفضل القرابين التي تلقيتها اليوم، لولا أنه فاتك أنه لم يكن عدوي، بل كان أكثر طوعًا لي من بناني، وكان يواقع الفتيات اللاتي يطرد شياطيني منها، ولم يترك من الموبقات ما لم يفعله سرًّا، وكان شخصًا آخر نهارًا، وكان أعز عليّ من شيطان جهير مثلك، قربانك مرفوض ودمه في عنقك.تتوجه الرأس إلى ناجح الذي سقط فكه في عدم تصديق، وتتمسك بأسنانها في ثوبه، فيما يقف الإصبع ويشير تجاه الرجل الوسيم الذي راحت ابتسامته تتلاشى رويدًا بينما يتحدث أبراكساس:- ماذا لدينا هنا؟ آه، إصبع تم قطعه أمام عيني وإهدائي إياه، أحب الدم الحي ولكن هل تظن أن سيد أسياد العالم السفلي من الممكن أن يقبل مساعدًا معيوبًا؟ كان يجب أن تعرف قيمة الذي تتقدم لنيل رضاه، قربانك مرفوض ودمك في عنقك.يقفز الإصبع فيصطدم بجسد الرجل الوسيم الذي تلاشت ابتسامته أخيرًا، وتقلبت الطفلة في نومتها ثم قامت تطل عيونها بالشرر تجاه الرجل الضخم، وقال أبراكساس:- قربان كامل حار الدماء، قربان حي تم الإعتداء عليه غدرًا في حضرتي وبيتي ودون استئذاني، مثلك يجب أن يختفي من ناظري الآن حالاً لو أراد النجاة بحياته، قربانك مرفوض ودمه في عنقك.تصيب الرجل الضخم الصدمة، يحاول التخفي خلف أحد المقاعد من نظر أبراكساس، في ذات الوقت الذي يحاول فيه الإفلات من الطفلة التي تعلقت بعنقه وشبّكت كفيها جيدًا ببعضهما، استدار أبراكساس، تناول السترة فوق عصاه، وقام عن مكتبه متجهًا إلى عماد الذي انحبست أنفاسه وتعلقت عينه بمنقار الديك المنفرج، مرت لحظات ثقيلة قبل أن يقول أبراكساس:- أما أنت...تعلقت كل العيون بأبراكساس، خمسة قرابين مرفوضة، ولم يبقَ إلاّ قربان، خمسة قرابين مرفوضة وقربان أخير عن جد ’قربان‘، خمسة قرابين مرفوضة ويتمنون بكل عزمهم ألا يُقبَل القربان الأخير، قال أبراكساس:- أما أنت فذكاءك نادر..زاغت أعين عماد في محاولته لفهم مقصد أبراكساس، وإن كان قد ابتلع طٌعمه، أو كشف أمره، أم انتهى أمره تمامًا! قال أبراكساس:- حقيقة.. يعجبني مخك، أنت الوحيد الذي قدمت لي قربانًا يعجبني، أمك؟! لقد استمعت إليك أتعلم يا فتى! شرّك مستطير، قلبك ميت، أعصابك ثابتة. أنت الذي أبحث عنه، وقربانك مقبول.تحترق كل الصدور بالغيرة، وتزوغ عينا عماد في ذهول:- أنا!!يؤكد أبراكساس:- نعم، أنت. وسيكون على رفاقك الآن تنفيذ الطقس الأخير لتتويج مساعدي الأبدي الذي ستفتح له كل البوابات ويملك النفوذ والقوة والسلطة.تتسع ابتسامة عماد غير مصدّق، تستحيل ابتسامته ضحكًا عاليًا فيما يبرطم زملائه غلاً، يتراجع أبراكساس خطوة للوراء:- تذكرون الطقس الختامي الذي أخبركم عنه عتريس. يشير بعصاه المغطّاة بالسترة نحو عماد، ويقول:- فنفذوا الآن.يتسارع الجمع الحاقد بتقييده، فيصيح في ذهول:- ماذا تفعلون، ماذا تفعلون؟يتناول الرجل الضخم الخنجر ويتقدم في اتجاهه، تلتقي عين عماد الذاهلة بنظرة عتاب في أعين الطفلة الميتة المتعلقة بعنق الرجل الضخم، وفي لحظة يغرس خنجره بصدره مرددًا:- هذا من أجل أن تُفتح لك البوابات وتتحرر روحك وتُكشف عنك الحجب يا بن المحظوظة!ينفذ الجرح إلى قلبه الميت، يتاح له مثل ثلاث ثوان باقية، ولكنها كافية لأن يدور بخلده التساؤل: هل نجح في خداع أبراكساس، أم أن أبراكساس هو الذي خـ... عفوًا، انتهى الوقت. تتصاعد روحه، ومعها تتصاعد ضحكات أبراكساس في أرجاء المكان:- هذا هو جزاء من يحتال على كبير الشياطين وملك ملوك العالم السفلي، كان بودّي أن أنخدع لك لولا أني أنا الذي يوسوس بالخديعة، أنا الذي أعرف أمرك ما إن أنظر إلى وجهك، أنا الذي أسري في دمك ودم أهلك، وأنا الذي كنتُ لأشاطرك عشاءك من ملوخية أمك، ولكن حقًا، حقًا، يعجبني مخك.يتوقف الجميع في ذهول يستمعون إلى أبراكساس، تتصلب الدهشة على وجوههم، تتداول بعض العبارات الخفيضة:"ما معنى هذا! هل خدعنا جميعًا ابن الملاعين هذا؟""ما أوقحه كاذبًا وواثقًا كان ليدّب إصبعه في أعيننا جميعًا""ليته لم يمت لكنتُ قتلته بيديّ هاتين" واحد فقط يتمتع بذكاء نادر وبديهة حاضرة، واحد يتمتع بقلب ميت، انسل من بين الجمع فالتقط ثِقلاً من فوق المكتب وأنزله فوق رأس جثة عماد فانشطرت إلى نصفين، ثم مال يملأ راحتيه من المخ الذي ينسال، ويرفعه نحو أبراكساس الذي التمعت عينه إعجاباً وقال:- المخ الذي يعجبك هو قرباني إليك يا ملك ملوك العالم السفلي.(تمت)...................................... ........................................اتمنى ان تكون عجبتكم القصة و الان جاء الموعد مع القصة الرعب الثانية القصة بعنوان : قصة فرار يهوذا [IMG]http://1.bp.*************/-vrpObgla7Kg/UcCRuqQIEwI/AAAAAAAAAG0/27sueMCw7Xo/s320/397459_585094404844051_417404112_n.jpg[/IMG]في القرن الخامس عشر طبع (دافينشي) لوحته (العشاء الأخير) على جدار دير القديسة (ماريا) بإيطاليا.. ألوان زيتية على جص جاف غير ثابت تقنيًا.. ماذا تتوقع.. هاه؟ تحللت.أنت تعرف (يهوذا): يـ - هـ - و - ذ - ا... من لا يعرفه؟! السؤال: عندما بدأ (يهوذا) في التلاشي من اللوحة، أين ذهب؟لا تسألني عن حوادث الخيانة المتعددة التي وقعت في الأعوام التالية... إن رجلاً بعمري لن تعمل ذاكرته بأفضل من مصفاة. فقط أخبرك أنهم ما إن يجلسون إلى كرسي الاعتراف لا تسمع منهم سوى عبارة: "لا أدري.. كأن روحًا شريرة تلبستني، ودفعتني دفعًا للخيانة."أما أنا، فكثيرًا ما كنت أعرج إلى دير القديسة (ماريا)، فأقف أمام اللوحة المتحللة وأسأل نفسي: "تُرى كيف تراني اللوحات، هل أبدو لها أيضًا كلوحة متحركة؟"وأنت.. ماذا يكون شعورك وأنت واقف أمام لوحة؟ هل تشعر بالجلال اللازم؟ صديقي (بيتر) كان مأخوذًا، إنه مولع إلى درجة الهوس، وفي العام 1977 أوشك أن يفقد عقله....يقف أمامها منكس الرأس، كسير البال والنظرات:"قولي لي ما سرّك؟أيتها القديسة الطاهرة ما سرك؟يا ذات الابتسامة الخالدة الساحرة الفاتنة الكامنة، ما سرّك؟يحكم قبضته على لا شيء ويصل أسنانه:"لماذا أنتِ له؟لماذا لستِ لي؟"يوجّه قبضته إليها وقد علا صوته:"لماذا منحته سرك؟"جُرحت أصابعه، نقّل نظره بين أصابعه الدامية وبينها: كانت لازالت تبتسم..نظر بغل:"أيتها القاسية، ما سرّك؟أيتها العاهرة الفاجرة، ما سرك؟يا ذات الابتسامة الساخرة الماجنة المداهنة الخائنة، ما سرّك؟"سقط على ركبتيه يبكي:"يا ويلي إن لم تمنحيني سرك..يا ويلي...."~تطرق زوجته الباب، ينتفض، يتلفّت حوله، يفتح فرجة صغيرة يسدها بجسده:- ما الأمر يا عزيزتي؟- ما أمرك أنت؟تتطلع إلى ما خلفه:- تكلم من؟- لا أحد.تقصيه، وتعبر:- لكني سمعتك تتحدث..تفتش أركانها جيدًا، تنظر بشك إلى ستار، وفي لحظة يقين تزيحه: تتجمد ملامحها لحظة، ثم تغرق في الضحك.- أتحدث هذه؟يبتسم بارتباك:- يحيرني سرها- ومن أين حصلت عليها؟- من بائع لوحات مُقلَّدة- ولماذا زجاجها مهشم هكذا؟تلتقط كفه الدامية:- يا إلهي! هل جُرِحت؟يفلتها:- لا عليكِ.. جرح بسيطيحوطها بذراعيه:- أكنتِ تظنين معي امرأة؟- وهل تقدر؟- ولِمَ لا؟تتفلت بدلال:- لأني كنت أقتلك حينها، سأحضر مطهرًا- فيما بعديجذبها من ذراعها برفق، ويجلسها أمام لوحة فارغة، يضع غلالة شفافة على رأسها، ويثبتها إلى صدرها ويقول:- أريد منك نصف ابتسامة، ربع ابتسامة..ثم تلتمع عيونه إذ يقول:- أريد ابتسامة ’(الموناليزا)‘تنفض الغلالة في بساطة، وتقول وقد مدّت الألف:- ثانية؟ينظر بحزم:- لن أكتفي منها قبل أن تصير لي- هي فاتنة فعلاًيثور:- لا! ليست فاتنة! ليست رائعة الجمال، ولا ابتسامتها أروع الابتسامات، ولا اللوحة مبهرة فنيًا، ولا يوجد بها سبب واحد يبرر هذه الشهرة المريعة التي نالتها وخلدت صاحبها... وإنني لأدفع نصف عمري وأعرف سرها!- هوّن عليك يا عزيزي، غدًا ترسم ما هو أروع منها.- أنا لا أريد ما هو أروع. أريدها هي.يعيد تثبيت الغلالة إلى ثوبها.. يضبط جلستها: يدير جزعها إلى اليمين قليلاً، ويضع يدها اليمنى على رسغها الأيسر.. ويبدأ في تليين ألوانه..لكم من مرة سقطت الغلالة، أو بدّلت جلستها، فكان يبتسم في صبر ويساعدها على الرجوع إلى الوضع الأصلي.. أما المرة الأخيرة التي رفعت فيها يدها في مواجهة فمها إذ تتثاءب، فقد تبدل في ثانية، وارتجف قطّهم الأسود: إن القط يشعر لكنه لا يستطيع أن يبوح. لا يملك أن يصف وهج ذاك الشرر الذي تطاير من عيني (بيتر). رمى فرشاته، والتفت إلى زوجته. وإذ تنظر في عينيه هالها أنها لم ترَ انعاكسها. رأت انعاكس الـ مونا—ليزا!! وحين نطق أخيرًا ضاغطًا على كل مقطع من كلماته قال:- ألم ـ أطلب ـ منكِ ـ ألا ـ تتحركي؟كان صوته رهيبًا؛ أجشًّا عميقًا لكأنه يأتي من قرون ساحقة... تصلبت دهشتها على وجهها، لم تغلق فمها بعد التثاؤب.. لم تغلقه حتى بعد أن تلقت تلك الصفعة.~للمرة الأولى منذ زواجهما تتلقى (ماريا) معاملة كهذه. (ماريا) الفاتنة الحالمة التي تحدت أهلها من أجل الزواج من رجل بلا عمل لا يفعل شيئًا في حياته سوى الوقوف أمام اللوحات لينتج ما ينتجه طفل في كراس رسمه: محض انبعاجات! ثم لا يُفلح في إقناع أي ساذج بشرائها. لقد تخطت كل شيء وغامرت برضاء الرب لتهرب معه وتتزوجه رغمًا عن أهلها.إنهم لا يعرفون دورًا للرجل غير أن يمد المرأة بالمال، لا يعرفون أن الرجل هو الأمان، هو الحماية، هو الاكتفاء. دعك من أن (بيتر) لم يكن يومًا شيئًا من هذا، لكنه في الليل حين يأخذها في حضنه ويقول لها: "أحبك" كانت تشعر بالسعادة.لقد أغضبها مرات فيما سبق لكنه كان يأتي دومًا لمصالحتها. هذه المرة حينما يأتي لن تصالحه، نعم، لن تصالحه من أول مرة، إنها تستحق بعض الدلال.(ماريا) الرقيقة، لم تتخيل أنها ستضطر في النهاية إلى التذلل لـ (بيتر) حتى يقبل مصالحتها، على مضض.~حين يصلّ المفتاح في باب المرسم غالقًا عنها عالمه، يصل في أبواب عقلها فاتحًا كل أبواب ذكرياتها عن الغرف المحرّمة..كان عليها أن تتكيف مع عاداته الجديدة: الاعتكاف طوال اليوم في المرسم، مناجاة اللوحة، الصراخ، الهذيان، ثم الصمت الموحي بألف كارثة...فيما بعد عرفت أنها ليست كوارث بالضبط.. حين يصمت هو ببساطة لا يكون بالمنزل، هو يتسلل إلى الخارج عبر الباب الخلفي للمرسم، ويحضر فتاته التي يعدّها لتكون (الموناليزا)... أما ما يحدث بعد ذلك، فلا تستطيع الجزم.كانت تشعر في قلبها بالجلال: كأنه اليسوع يبشّر سرًا أو جيفارا يدير تنظيماته أو حتى فرانكنشتاين في إحدى تجاربه المرعبة..في تلك الليلة، شعرت بشيء مختلف.. بالرغم من تأديته كل الفقرات ببراعة لكن فقرة ’الصمت‘ بالضبط لم ترقها؛ لم تدم عشر دقائق، ثم انفتح باب المرسم عن جسده المبتل. جرى في سرعة قاطعًا الممر إلى غرفة النوم:- أين المعطف؟- هل كانت تمطر؟- أسألك: أين المعطف؟التقطت المعطف وحاولت أن تساعده في ارتدائه، لكنه جذبه منها ومد الخطا، استوقفته:- هاك الشمسية أيضًا!اختطفها في سرعة وعاد في اتجاه المرسم، رفعت صوتها من وراء ظهره:- مهلاً! لماذا لا تخرج من الباب الرئيسي؟توقف للحظة، لكأنه لم يفكر في هذا الخيار، ثم تابع سيره، ولن يفكر أيضًا.~في الشارع.....لا تسلني عن الشوارع في حضرة اثنين: القمر، والمطر...أما لو سألتني فلن أخبرك ما تريد سماعه، لن أخبرك شيئًا عن الغلالة الشفافة ـ كغلالة (الموناليزا) ـ التي غلفت الكون في تلك اللحظة، لن أخبرك حرفًا عن دموع السماء أو غسل النجوم لتنقية الضياءسأخبرك بأمانة أن الأرض كانت زلقة، سأخبرك بأمانة ـ كي يحبني اليسوع ـ أن الماء والتراب لهما مفعول الطين المقزز... سأخبرك أن (بيتر) ما إن خطا سقط..هو كان مأخوذًا لا شك.. أحد غيره ما كان يجرؤ على الخروج في ليلة كهذه... حتى الفتيات اختفتن.. فمن أين يحصل على موناليزاه؟أما السيارة التي يرسلها القدر لتفرمل عنده بالذات، فتنزل منها المتغنجة في ثوبها المكشوف ثم تغمز له بعينها وتتلوى... لهي سيارة مُلهِمة..يسألها:- ما دينك؟- ماذا أيها الشاب الجميل؟- لا يهميجذبها من ذراعها إلى المرسم، يجلسها على مقعد خشبي في مواجهة اللوحة الفارغة، تشهق متمثلة الهلع:- أهنا؟ثم تتغلب حلاوة روحها فتقبل على مضض متعجبة من مزاج الفنانين المتقشف ذاك.. يدير ظهره لها منشغلاً بإعداد اللوحة والألوان في حين يقول:- أريدكِ أن تضحكيفترن ضحكتها الخليعة الكفيلة بإيقاظ الموتى وإيقاظ رغباتهم معهم. لم تكمل ضحكتها؛ هوت يده على فمها، ودفعتها يده الأخرى دفعًا للخارج:- ليس هذا ما أريده أيتها العاهرة! اخرجي.يغلق الباب، يفتح دفتره ويشطب احتمال كون (الموناليزا) محض غانية من بين الاحتمالات.~(ماريا) في بلد غريب بلا أهل، وزوجها جُن... فليرحمها الرب.جاءتني.. دلفت إلى غرفة الاعتراف. في الجو: علق عطرها لا يدري أين يحط.. ضممته بيدي وأوسدته عباءتي المقدسة.. أسندتُ رأسي إلى الحاجز الذي يحول بيني وبينها... يممت وجهي بالجدار، ولكنها أول ما نطقت قالت: "يا أبتي." فليرحمني الرب.في اللحظة التي شعرت فيها بأنفاس (ماريا)، أدركت أن (بيتر) لم يكن صديقي. إن الرجل الذي يتزوج (ماريا) لن يكن يومًا صديقي.أصغي إلى كلماتها، زفراتها، تهدج صوتها بالبكاء، نعيها حظها وعويلها، لا تبكي يا (ماريا)، إن هذا الوغد لا يستحقك. وأيضًا تظل آخر كلماتها لي: "يا أبتي."فقط لو تتوقف عن مناداتي: ’أبتي!‘~في الليلة التالية، كان هذا هو موعد (بيتر) مع الاسم الثاني على قائمة الاحتمالات. (بيتر)، قرأ كل حرف كُتب عنها: البعض يرجّح أنها فتاة ليل التقاها (دافينشي)، والبعض رجّح أنها سيدة تُدعى (ليزا) زوجة وأم لعدّة أطفال، وقالوا أنها والدة (دافينشي)، وقالوا أنها محض وهم من مخيلته... حتى ذهبت بهم الظنون أنها المعادل الأنثوي له نفسه... وكأنه يرسم روحه المؤنثة التي قُدّر لها أن تسكن جسد رجل.(بيتر) علم أن زوج (ليزا) جارته مسافر، إنه تاجر وكثير الترحال، وإنها فرصته. رحبت به (ليزا). إنها صديقة وتعرفه جيدًا، وليس من المستغرب أن يزورها، لكن الغريب حقًا أن أول كلمة نطقها:- ما دينك؟- (بيتر)! ما هذا السؤال الغريب... ألا تعرف أنني مسيحية؟- عظيم! عظيم!جذبها من ذراعها وقال أنه يحتاجها لأمر هام، بالكاد استطاعت أن تسحب طفليها. أخذها (بيتر) ودارا حول البناية ليدخلا من الباب الخلفي للمرسم. قال لها أن (ماريا) مسافرة وأنه نسي المفتاح، وأن كل ما يريد أن تجلس وتبتسم. و(ليزا) رائعة حين تتخذ وضعية (الموناليزا)... ولا شك أنها رائعة في لقاءاتها الحميمة مع زوجها... إنه يسمع صوتها أحيانًا -- ويتكفل خياله برسم اللوحات.للحظة اكتشف خدعة أن (ليزا) صديقة، وبدا له وهي جالسة في استسلام أنها عشيقته.. لم تطاوعه الفرشاة، بالرغم من أن (ليزا) كانت قريبة الشبه جدًا من ليزا (دافينشي)... ولكن يبدو أنه لا يكفي أن تشبه الموديل (الموناليزا)، ولكن يجب أن يحصل على خبرة حميمة معها أيضًا.إن الهاجس بداخله يتزايد، والقط بدأ ينتفش فروه، ويموء ولكأنه يعوي.. وابتسامة (ليزا) تتراقص في عينيه: حلوة ومغرية، ولكنها مآمنة: تظنه محض صديق.. رمى بالفرشاة واقترب منها... للحظة لم تفهم، ثم بصعوبة بدأت تدرك:- (بيتر) هل جننت؟ إنني زوجة وأم!ويبدو أن غريزة الأطفال للخطر تحركت كما القطط، بكاء ومواء، وما كان ينقصه أيضًا: طرقات على الباب.شتت الطرقات انتباهه، حملت (ليزا) طفليها وجرت إلى الخارج، ضرب بقبضته المقعد... تراقصت الشياطين أمام عينيه، فتح الباب وصرخ بـ (ماريا):- ماذا هناك؟رجف قلبها، رجل ضخم وثائر ورهيب... كيف تزوجته ذات يوم؟ خطت إلى الوراء:- لا شيء! لا شيء!أغلق الباب، وشطب الاحتمال الثاني.~عندما زارتني (ماريا) في المرة التالية ـ لك أن تتوقع ـ كانت منهارة تمامًا. كانت تشكي جفاءه لها وهجره إياها، هي لم تقل، لكني شعرت أنها تريد أن تقول أنها تتوق لجسده.. لحسن الحظ أن لم تقل؛ فالفكرة تصيبني بالرجفة: أن تكون (ماريا) بحضن رجل.قالت:- إن ما رأيته يا أبتي ليفوق الوصف... تخيّل، تخيّل أن أفتح باب المرسم لأجده يقبّل غانية؟- وماذا أيضًا؟ صفي لي بدقة حتى تحصلين على العلاج الدقيق بالمقابل.- ويضع عنها ملابسها، و....كنت أعرف لماذا تكذب... إنها تريد أن تجد المبرر الذي يسمح لها بالخيانة.. (ماريا)، أحبت صوتي الرخيم منذ سمعته.. لربما تظنَ أنت أنه يمنحني وقارًا، لكن (ماريا) رأته رجولة وحنان معًا... وإنها لتظن أنهما رائعان حين يجتمعان.. أضف لهذا أن صوتي يوحي بالألفة، وقد بدا لها أنها سمعته من قبل.وحين انتهت أخبرتها ببساطة:- لربما لم تصدقي، لكني أعذرك.. فليرعاك الرب يا ابنة الرب المخلصة.- أشكرك يا.... ’أبتي‘قالتها بدلال، بغنج.. قالتها لتنفيها لا لتثبتها.... قوليها ثانية يا (ماريا): ’يا أبتي.... يا أبتي‘.~أجلس (بيتر) أمه أمامه: سيدة طيبة ممتلئة، وبالرغم من أن ملامحها لا تمت للموناليزا إلا أن انعكاسها في عينيه حين يموء القط كان: انعكاس (الموناليزا)...للمرة الأولى في محاولاته العديدة يشعر أنه يستطيع، إنه يبلي حسنًا، إن نظرات أمه، روحها، ابتسامتها الحنون تشبه كثيرًا (الموناليزا)... جرت الفرشاة على اللوحة تلاحقها أصابعه بشغف... وحين وصل إلى الصدر تصلبت أصابعه، كم رجل بالكون يستطيع أن يرسم الصدر الذي أرضعه؟ للحظة، نظر (بيتر) إلى شفاه موناليزاه الجديدة: إن الكارثة أن اكتشف أنه يـ.. شتهيها!و(بيتر) مسيحي متدين برغم كل شيء، إنه طوال عمره يشتهي (الموناليزا)... لكنها الآن أمه... إن الهاجس الذي يزوره كلما شرع في رسم موديل لا يجب أن يزوره هذه المرة... لا يجب.رمى بالفرشاة، إن (الموناليزا) لا يمكن أن تكون أمًّا. أمسك بيد أمه يقيمها بعنف:- "قفي، تحركي"لكنه تحيّر إلى أين يسحبها: أإلى باب المرسم الخلفي، أم الأمامي؟~تأخرت (ماريا) فانشغلت بتشذيب لحيتي حتى تشممت عبيرها... اللحية مهمة جدًا للوقار و (ماريا) مهمة للخلاعة... فأيهما أهم؟- لماذا تأخرتِ يا ابنتي؟- اعذرني يا أبتي إنني لا أستطيع زيارتك حتى يخرج هو من المنزل. إنه جُن! جُن! تصوّر أن يُدخل والدته من باب المرسم الخلفي كما يُحضر عاهراته؟ أنا ذُهلت حين رأيتها تدلف إليّ وأنا جالسة في الصالة: سميت باسم الصليب وعقدته، فهدّأتني وأخبرتني أنه من دعاها بهذا الشكل! إنه لم يعد يعتني بنفسه واستطالت لحيته وأظافره وصار منظره رهيبًا.. إنني أخافه، أخافهثم شرعت في البكاء.. إن روح (ماريا) الرقيقة لا تحتمل كل هذه الانفعالات، قالت لي بألم:- إنني موصومة بالخطايا يا أبتي.. إنني لا أستحق عطفك.. أنت لا تعرف كيف أشعر.. أشعر أن روحًا خبيثة تحوم حولي، لقد توقفت عن الصلاة.. وأشعر أنني أوشك على الخيانة لدى أول رجل يعرض عليّ المتعة... إن هجر (بيتر) أضعفني، وقد ارتكبت بالفعل خطية... وإن الخطية تثقلني فتحملها عني يا أبتي..في عملي هذا سمعت الكثير من الخطاة الذين يعزون أخطائهم إلى الشياطين والأرواح الخبيثة.. لكن (ماريا) الطاهرة حين تقول أنها أخطأت فأنا أصدّق أنه بفعل الأراوح الشريرة. الخائنون، بالضبط منذ اهتلكت لوحة العشاء الآخير، يتحدثون عن الروح الخائنة التي تتربص بهم وتحركهم... لماذا لا يصارحون أنفسهم ويقولون أن (يهوذا) احتلهم... لماذا، حتى أكثر الناس روحانية، لا يتقبلون فكرة ’حلول (يهوذا)‘؟(ماريا) التي كانت تحلم في طفولتها أن تصير راهبة لا يمكن أن تخون، للأسف.كنت أعرف خطية (ماريا)... لكني أريد أن أسمعها منها، أن ألصق أذني للجدار وأستنشق عبير أنفاسها وهي تعترف، وربما، فيما بعد، أذهب أنا للبابا لأعترف أنني استمتعت باعتراف (ماريا). قالت:- لقد كذبت عليك يا أبتي، لم أره بعيني.. أنا الخائنة وليس هو. إنني.. في الليل... أخلع ملابسي وأنشر جسدي على الفراش... أعرضه لأشخاص وهميين، عرضته على (بيتر) ـ في خيالي ـ لكنه رفض، فعرضته على رجل، لم أره، لا أعرف شكله يا أبتي، لكن صوته رخيم: مهيب... كصوت (بيتر) حين يصرخ بي، لكن الفارق: أن (بيتر)، بهذه القوة في صوته يكون ضدي، أما قوة هذا الرجل فهي لي... إن المرأة يا أبتي تعشق الرجل القوي الذي يسخر قوته لها، تعشق أن تشعر في قرارة نفسها إن هذا الوحش يضعف إذا ابتسمت له. وهذا الرجل: حنون، إنه كذلك لم يرني، لكنه قريب مني يا أبتي.- وهل قبِل هذا الرجل جسدك؟- لم أنتظر رده... في خيالي زنيت به. فهل أنا زانية؟ هل تغفر لي يا أبتي كي يغفر الرب؟ولماذا تفترضين يا (ماريا) أن ثمة علاقة بيني وبين الرب؟~شطب (بيتر) احتمال أن (الموناليزا) أم (دافينشي)، وشطب باقي الاحتمالات في القائمة، ثم مزّق القائمة؛ إن التخطيط وتتبع (الموناليزا) مع سبق الإرصاد والترصد: بلا جدوى.. وإن قانون الصدفة لأقوى من كل شيء!بدأ (بيتر) يفكر أن لو عليه أن يجد (الموناليزا) فعليه أن يسمح بمساحة من الارتجال والفوضى في بحثه، وأن يجرّب كثيرًا جدًا حتى يجد مبتغاه.. أما التأكد من ديانة الموديل فهذا أمر بلا قيمة.. ما يمنع أن تكون (الموناليزا) حتى بلا ديانة؟ثم ما احتمال أن تكون (الموناليزا) مزيجًا من عدة فتيات؟ فتاة واثنتان وثلاثة في الليلة الواحدة... ألوان تمتزج على اللوحة التي يعلق بها أكثر من عطر.. إحداهن تلقي ظلالها على اللوحة فتظلم وكأنها تتعمد أن تضايقه، إحداهن تلتصق بجسده وهو يرسم فتثير خيالات شهية، وإحداهن تجلس كالصنم بلا حراك...بائعة الفاكهة التي يغلبها جوعها فتقضم تفاحة، الأرستقراطية التي ترفض أن تُرسم إلا واضعة ساقًا على ساق، المراهقة التي تحتضن كراسها، الكعب العالي جدا.. حمّالة الصدر المشدودة جدًا.. الشعر المنسدل... ألف وجه لألف امرأة ولكنهن جميعًا يرين انعكاس (الموناليزا) في عيني (بيتر).وفي كل مرة، وبعد أن ينتهي من اللوحة، يحملها فيقارنها بلوحة (دافينشي)، من ثم يرمي بها إلى الأرض، ويمزقها بسكّينه، ثم يلقي بالموديل عليها، ويهوي فوقها.كان يخونها، كان يستمتع بهذه الفقرة كثيرًا إلى الحد الذي يجعلني أتساءل: هل أراد حقًا أن تنجح رسوماته، أم كان يخشى إن نجحت أن تتوقف زيارات الفتيات؟كانت تشعر بخياناته، لكنها كانت بحاجة إلى دليل، أن تتأكد؛ فإما تبرد نارها، أو تشتعل لتحرق الكل. وقد أقسمت بالمسيح والعذراء أنها لو أيقنت بخياناته: لستخون.هل تعرف من المرشّح الأول لتخون معه (ماريا)؟ إنه أنا. أنا المحظوظ الذي سينال لقب: ’عشيق (ماريا) الطاهرة‘. هل تريد أن تعرف أكثر؟ نعم، أحب أن تخون (ماريا) (بيتر) معي، أعني: أن أخون صديقي (بيتر) مع (ماريا). أقصد: أن يخون (بيتر) (ماريا) مع فتيات المرسم.. أو.... أن تخون الفتيات أزواجهن مع (بيتر)... أوه! لا أدري! فقط أعرف أني لا أحب أن يطلق عليّ أحدكم لقب: ’خائن‘، لأنه ـ بالأصل ـ كلكم خائنون.~كيف لـ (ماريا) أن تعرف: فكرَت أن تصنع نسخة من مفتاح المرسم، فكرت أن تفتش المرسم بحثًا عن دليل بعد مغادرتهن، حتى أن تنتظرهن على باب المرسم أو تصادقهن ليدلين بالاعتراف.. فكرت في أفكار معقدة وساذجة، ولم تفكر في أبسط شيء.في زمن، بدا لها موغل في القدم، كان بإمكانها أن تقول لـ (بيتر): "سأقتلك لو أن معك بالمرسم امرأة"، ثم تظفر بحياتها بعدها.. أما الآن.... ولماذا نقارن بالآن إذا لم تكن المقارنة في صالحنا؟لحقت به وهو يستعد لطلعته التي سينتقي فيها عروسه لليلة، ورمت عليه بالسؤال. أصدُقك، إن صراحة (بيتر) غير متوقعة، وإن هذا لأقصر وأثمر حوار:- هل خنت؟- نعم.التمع الغل بعينها، فأغمضتها ثانية، وحين فتحتها كانت زوجة متسامحة متفانية لا أكثر.. ابتسمت:- ها أنت تمزح، (بيتر)!كانت تشعر بحضور تلك الروح الخائنة بشكل مبالغ فيه، لكنها هذه المرة ليست نادمة.. إن لم يستحق وغد كهذا أن تخونه، فلماذا وُجِدت الخيانة في الدنيا؟ جهزت الطعام، أعدت المائدة، أشعلت شمعات الشمعدان... ثم ذهبت تدعوه إلى العشاء..كان يرتدي بنطاله وقميصه الخاكي.. احتضنته من الخلف، انتفض... قالت برقة:- أفزعتك؟- لا! فقط لا أحب أن يحدث شيئًا خلف ظهري... أفضل لو تواجهينيارتبكت:- بماذا؟نظر إليها بعمق:- لا شيء..عاد لارتداء ملابسه، نفضت عنها نظرته:- أغضبت من تشككي؟ هذا لأني أحبكنظر إليها بطرف عينه، وتابع الاستعداد..- إذا كنت مصممًا على الخروج، على الأقل لنأكل معًا.. أنا أعددت العشاءجذبته من يده برفق إلى المائدة، مهدت له الكرسي وأجلسته.. وجلست في مواجهته، سألته:- أترفع الصلاة أم أرفعها أنا؟قال في ملل:- ارفعيها أنتِ.ضمت يديها وأحنت رأسها وبدأت في تذكر كيف تقال الكلمات، قالت بصوت خفيض:- أبانا الذي في السماوات...فتحت عينيها، أغمضتهما:- أبانا الذي في السماوات....تتوق حقًا إلى معرفة ما يأتي بعد هذا، لكنه لا يجييء، يوفر عليها حيرتها، يشطر الخبز ويرمي لها نصفه:- خذي كلي!تلتقي يداهما في الإناء.. تلتقي نظراتهما، تسحب يدها في عجل.. تتذكر عبارة قرأتها في كتابها المقدس:"الذي يغمس يده معي في الصحفة هو يُسَلِّمُني!"كان يجب أن تتمالك نفسها، لو أن ما بالطعام سمًّا لما بدت أكثر ارتباكًا من هذا.. لذلك حين سكب زوجها الملح بالخطأ ابتسمت، قالت له:- لا عليك!ثم ضغطت بيدها على قلبها كي يكف عن الضجيج؛ سكب الملح لن يكن يومًا بشارة خير.أما اللحظة التي مسح فيها فمه بالمنشفة فكانت أسعد لحظاتها، تركت طعامها وقامت خلفه توصله للباب:- هل ستتأخر؟- ربما..- إذًا حاول ألا تتأخر.. هل يمكنني الذهاب في زيارة قصيرة للكنيسة؟ تعرف... سأضيء شمعة وأدعو العذراء أن تباركنا..- لا بأس.- شكرًا يا عزيزيثم طبعت قبلة سريعة على خده.. وحين استدار يرقبها في اهتمام تذكرت عبارة أخرى وردت في ظرف مشابه:"يا (يهوذا)، أَبِقبلةٍ تُسَلِّمُ ابن الإنسانِ؟"~عاقدة العزم هذه المرة... رقيقة طاهرة منكسرة في زي عاهرة قاسية جبّارة... خاسرة لكل شيء... لأن (بيتر) كان آخر شيء لها..- هل تسمعني يا أبتي؟- نعم يا ابنتي...- إذًا لماذا لا تجيب؟ إن لدي اعترافًا ولكني أريد أن أقوله لك مباشرة، فاعبر هذا الجدار ودعني أراك- لكن يا ابنتي طقوس كنيستنا تمنع هذا- ولماذا يا أبتي؟ إنني أحتاج أن تضع يدك على رأسي وتقول أنك غفرت لي، ألم تتعلق المرأة الخاطئة بقدمي المسيح؟ ألم يرتمِ الابن الضال في حضن أبيه عندما رجع؟ وأنا خاطئة وأحتاج إلى حضنك يا أبتي.يالبؤسك أيها القدّيس.. لكم أتمنى ولكنني:- لا أستطيع يا (ماريا)... لا أستطيع...خرق اسمها أذنها:- هل قلت (ماريا)!؟وكيف عرفت اسمي؟أوه.. إن نشوة اعترافها أفقدني الحذر...- إن اسم زوجك والطباع التي أخبرتِها عنه تذكرني بصديقي (بيتر).. وأعرف أن زوجته تدعى (ماريا)- إنها لورطة أن تعرف زوجي يا أبتي... ولكن....ثم مسحت بيدها على الجدار، وألصقت جسدها:- لننسى هذه الرسميات الليلة، اعبر إليّ، إنني... أحبك يا أبتي’أحبك يا أبتي‘... دوامات من الكلمة يعوم بينها قلبي... أبحث كالغريق عن بعض العقل، بعض العقل:- أستخونين يا (ماريا)؟- لا تسمها خيانة... إنه قربك يا أبتي- بل قولي ’خيانة‘ يا (ماريا)... قوليها... لكنني لا يمكنني أن أقترب أكثر من هذا... فأعيريني يدك، سأعبر بها جسدك.. طرقه الممهدة والوعرة... سأذوق مراراته وحلوه، وخذي يدي... مري بها على جسدي.. وما تقع عليه يدك فهو لك.- وكيف يبدو جسدك يا أبتي؟- إنه ضخم، جاف، وأسمر اللون.- أضع عنك عباءتك، أبتي، ماذا ترتدي تحتها؟- أرتدي بنطالاً وقميصًا من اللون الخاكي- ماذا!؟لابد أن (ماريتي) للمرة الأولى تفكر في الربط بين اثنينا: بين صوتينا، جسدينا، وحتى ملابسنا... لماذا لا يمكنها أن تزورني إلا حين يخرج؟ لماذا تشعر بالألفة مع صوتي؟ كيف أعرف صدقها حين تصدق وكذبها حين تكذب.. كيف لم تفكر في هذا الأمر من قبل؟نثرت (ماريا) كلماتها المبعثرة:- الخاكي.. كيف.. (بيتر)...صديقي (بيتر)... نعم، أعرفه، إنه من أقرب الناس إليّ، أقرب شيء. إن (ماريا) في أوهن حالاتها، وهذه هي فرصتي.. وإني في تاريخي لم أجد ضحية قابلة لأن تخون بسهولة أكثر من (ماريا) في لحظتها هذه....إن هي إلا لحظة... أداعب جسدها بيدها، وخيالها يرسم صورتي: صورة العشيق... لكن روحي تختنق، أشعر بها تنسحب... أحاول أن أتشبث بها، أن أجذبها، لكني لا أجد لها أطراف... أضع ملابسي وصليبي وحُليي، أتخفف من كل شيء، أتخبط في الجدران، أستنجد بـ (ماريا)تحاول العبور إليّ، تبحث عن فرجة وتدور حول الجدار... ولما تنجح أخيرًا أن تدلف إليّ تصرخ:- (بيتر)!ينازعني أحدهم على روحي، وأنازعه، أنا أريد روحي، أريدها، لا يمكن أن تأخذوها، لا يمكن أن تأسروها من جديد في.... لوحةينجحون، يسحبونني بعيدًا عن هذا الجسد الذي رقد بلا حراك... تضمم (ماريا) ملابسها، تنحني على زوجها: تستفيقه، وحين يفتح عينيه يطالعها بعيني طفل خاويتين، ويضممها.يتعكز عليها إذ يخرجان من الكنيسة... الكنيسة التي بدت لهما الآن: خرابًا مهجورًا.. لا يحوي شيئًا سوى البوم والقطط.. لابد أن (ماريا) تنظر إلى المكان بدهشة.. كأنها تراه لأول مرة... لابد أنها تتساءل في نفسها: كيف رأته فيما سبق: كنيسة؟سيقول (بيتر) أشياء كثيرة، ولكنك تعرفها: سيقول أنه شعر أن ثمة روح شريرة تتلبسه وتدفعه دفعًا للخيانة، وقد أخبرتك من قبل أن كلهم يقولون هذا. سيقول أنه لا يشعر بنفسه حين يعوي القط وتلتمع (الموناليزا) في عينيه: إنني أكون حاضرًا حينها في داخل جسده، وأنت تعرف غريزة الحيوانات للأشياء المريبة. سيقول أن ولعه برسم (الموناليزا) تحول إلى ولع لمواقعة الفتيات اللاتي يرسمهن، إنه الولع بالخيانة، أن يخون هو، ويدفعهن للخيانة... إنني حتى دفعته إلى تمثيل دور العشيق ليدفع زوجته للخيانة... (ماريا) الطاهرة كانت ستخون فقط فقط لو أمهلوني دقيقتين.سيقول أشياء كثيرة، وسيبدو عليهما معًا العجب، حتى حين تخرج صحف الغد بخبر: "النجاح في ترميم لوحة (العشاء الأخير) لـ (دافينشي)" ستظل عقولهم المحدودة عاجزة عن اكتشاف السر.~لقد سألتك من قبل عن شعورك وأنت واقف أمام لوحة، ولم يكن سؤالاً جديًا.. كنت أريد أن أسألك: كيف يكون شعورك وأنت واقف ’داخل‘ لوحة؟ كم من الملذات كنت لتكسبها لو أنك بالخارج؟ كم من المال كنت لتجمع، كم من الفتيات كنت تضاجع؟ وكم كم!أعاني من الوحدة، والملل، وتنميل في الأطراف في حين تحكي المرشدة لمجموعة من السذّج عن الجهود المضنية التي بذلوها في ترميمي... كم واحد منهم يدرك حقيقة: ما أنا!إنني سأفلت ذات يوم، وسأنشر الخيانة بينكم كما وصمتموني بها، وسأذكركم دائمًا: أن القديس (يهوذا) هو أخلص التلاميذ للرب... وأن خيانتي ما كانت إلاّ إخلاصًا؛ فلولاي.. لولا أن استشعرت خوف المسيح من أن يضعف فأسرعت بتسليمه للكهنة لما تحققت مشيئة الرب في أن يُصلب ويخلصكم من خطاياكم..إنني أداينكم جميعًا وسأصبر حتى أتحرر وأطالبكم بالدين، فقط يستبد بي التوق حين أتذكر الطريقة التي كانت (ماريا) تناديني بها: "يا أبتي". cvbn(تمت)......................................... .....و هكذا انتهت السلسلة الاولى من قصصى الرعب و انتظرونى مع ليلة مرعبة اخرى باذن الله تعالى و السلام عليكم و رحمة الله و بركاتة يا اهل برق الكرام =) .................................يوسف البرق .
السلام عليكم و رحمة الله و بركاتة
ال بوم سوف ابدء معكم سلسلة القصص الرعب التى ارعبت الكثيرين و هى مكونه من عدة اجزاء كل جزء مكون من قصتين و بسم الله الرحمن الرحيم لنبدء =D
القصة الاولى : القصة الحقيقية قربان مقبول
[IMG]http://4.bp.*************/-LcdI4B-Mm5U/UhPACcV4GYI/AAAAAAAAAHs/KLt1heN2zxA/s320/korban-3.jpg[/IMG]
على الطريق الزراعي، وكأنما قد عمل عملة، يتسلل الميكروباص متسترًا في جنح الليل، ركّابه شبه نائمين، كما أنهم ليسوا متيقظين، في حال أقرب إلى السطل، وسائقه قد أصابه الصداع من جراء الأغاني الشعبية، ولم يجرؤ على إغلاق الكاسيت مخافة الوقوع في النوم، فلجأ إلى تشغيله بصوت خفيض.
البرد قارص، و عماد قد ضم طرفي سترته عليه، إنها سترة من جلد طبيعي، وهي قطعة قيّمة جدًا لزوم العمل، فكيف يمر عبر عشرات المكاتب من الأمن وخدمة العملاء والسكرتارية ويدلف إلى مكتب عميل VIP ما لم يكن مظهره لائقًا؟ ومن حسن الطالع أنها تنفع في أيام البرد كذلك.
ولكنه لا يريد أن يفكر من جديد في العمل، كما لا يريد أن يفكر في أسرته في القرية التي سيعود إليها خالي الوفاض بعدما لم يتمكن من بيع شيء هذا الأسبوع، ولا يريد أن يفكر في والد خطيبته الذي سيخبره أن مهلته قد انقضت وخطبته انفسخت. فقط يريد أن يفكر في ملوخية أمه الشهية وسريره الدافئ، أراح رأسه إلى النافذة، وسيكون رائعًا لو استغرق في النوم.
تسقط رأسه نائمًا، يصحو منتفضًا إثر فرملة مفاجئة، يصعد ثلاثة رجال إلى الميكروباص يحمل كل منهم لفافة فيحتلون الكنبة من خلف عماد، يطلق في نفسه سبة بذيئة، ويعاود إراحة رأسه إلى النافذة فيما يتحرك الميكروباص من جديد.
- أنا خائف يا ناجح..
- لا تخف يا راضي، الأمر بسيط، فبمجرد أن نصل إلى ضيعة أبو الفداء سنسلم ما لدينا، وننتظر اختياره لأحدنا.
يتسلل الحوار إلى أذن عماد من الكنبة الخلفية، فيحك أذنه ويحاول استدعاء النوم.
- وهذا ما أخشاه، ماذا لو لم يعجبه قرباني ولم يخترني بعدما بت أحلم بالسلطة المطلقة التي ستكون لي، والقوى الخارقة التي سأملكها، وبوابات العالم التي ستفتح لي، سيكون من القسوة ألا يختارني بعد كل هذا.
- كن منطقيًا يا راضي واعترف أن فرصتك ضعيفة، أنت صديقي ولكني لن أخدعك، وأنت لن تكون أفضل مني، أو قلبك أكثر موتًا من قلبي، أو قربانك ـ مهما كان ـ سيكون أفضل من قرباني. وعلى كل حال، أنا لن أنسك حين أصير رجله المُختار وسينالك جانب من العز والجاه والسلطة.
يقتحم الحوار أذنه، فيرهف السمع. يتدخل صوت ثالث:
- دومًا ما تظن نفسك أذكى من الجميع يا ناجح، وهذا هو الاختبار الحقيقي لذكائنا جميعًا.
- بل أنت دومًا تنزعج مني يا خلف، دومًا تعارضني وكأنني وُلِدت فوق رأسك، على أي حال، دعك من هذا وأخبرني ما الذي أحضرته؟
- ألم أقل لك أنك تظن نفسك أذكى من الجميع، ألم ينبهنا عتريس إلى عدم الإفصاح عن قرابيننا كي لا تفسد؟
- وأنا قلت لك أنك دائم سوء الظن بي.
يطير النوم تمامًا ويتقد ذهنه. يتدخل الصوت الأول:
- يا جماعة اهدءوا، هل يجب أن تتشاجرا في كل لحظة هكذا؟ إن ما يشغلني لهو شيء آخر، أسمعتم ما قاله عتريس عن الخطوة الأخيرة؟ إن هذا بشع ولا أتصور أن يقع لي أو لأحد منكم.
- هذه هي التعليمات ولقد قبلنا بها، وإذا كان هذا هو الثمن للحصول على القوة المطلقة فبالتأكيد إن أحد منا لن يفرّط، إنها فرصة والفرصة لا تأتي مرتين.
يتوقف الميكروباص إلى جانب، يتوقفون عن الحديث وينظرون إلى رجلين على الطريق يحمل كل منهما لفافة، أحدهما ـ وهو ضخم ـ رفع حاجبه إلى الأعلى، والآخر ـ وهو وسيم ـ أزاح شفتيه في شبه ابتسامة، وتبادلا مع رجال الكنبة الخلفية نظرة وهزّة رأس، قبل أن يصعدا إلى المقعدين الأماميين جوار السائق. أما ما قد استوقف عماد فهو تلك اللفافة الهزيلة بيد الوسيم، هل يمكن أن تؤدي ’هذه‘ الغرض؟ لابد أنه واثق جدًا وإلاّ لاهتم لحجم لفافته كالآخرين.
يحاول رجال الكنبة الخلفية أن يعاودوا الحوار، يتمنى عماد لو يعاودوا الحوار، غير أن القلق أو رهبة ما هم مقدمين عليه كان قد ألجم أفواههم.
على مسافة ليست ببعيدة، وقبل أن ينحرف الطريق الزراعي، يشير الرجل الضخم في المقعد الأمامي إلى السائق أن يتوقف، فينزل مع زميله، وينزل معهما رجال الكنبة الخلفية، وقبل أن يتحرك السائق، يطلب عماد من جاره أن يخلل له ممرًا، وينزل من فوره على إثرهم.
ينظر الرجال خمستهم إلى عماد، يضمم عماد سترته عليه فيما ينطلق الميكروباص مبتعدًا.
يتبادل الرجال نظرة مع بعضهم، ثم يجدّون السير نحو أحراش على جانب الطريق، يسير عماد على بعد مسافة قصيرة من خلفهم. يدير ناجح رأسه إلى الخلف فيجد عماد مقبلاً عليه. يتوقف ويستدير إليه:
- أنت تتبعنا إذًا؟
- أنا لا أتبعكم، أنا ذاهب إلى ضيعة أبو الفداء.
ينظرون إلى أنفسهم متعجبين، ويبادره راضي:
- هل تعرف عتريس؟
- نعم.
يسأله ناجح بتشكك:
- فأين المطلوب؟
يضرب على سترته الجلدية ويقول:
- في الحفظ والصون!
- في جيبك! إنه صغير جدًا، وهل يصلح هذا؟
- ليست مسألة حجم، وها هو صاحبكم يحمل لفافة أصغر.
يهز ناجح رأسه، ويسأل في تذاكٍ:
- صحيح، وما هو؟
- ومن قال أني قد أخالف تعليمات عتريس وأخبرك؟
- حسنًا.
يقولها باقتضاب، ثم يضرب على كتف عماد ويقول بينما يستدير:
- تعالَ معنا.
يتوغلون داخل الأحراش يتبعهم عماد، ينعق البوم فيرتجف راضي أول من يرتجف، تثبته يدا ناجح في مكانه، ويواصلا التقدم، ومن بعيد تتوهج الضيعة تحت ضوء القمر المكتمل، خطوة بخطوة في الممر الضيق نحو الضيعة، وكأن الأشجار تنحني قليلاً، وكأن الأطيار تفر بعيدًا، وينزوي القمر.
على الباب، يتوقف أولهم فجأة فيرتج الطابور من خلفه. يميل الرجل الوسيم ذو الابتسامة الساخرة فيلتقط مفتاحًا من أسفل دوّاسة القدم، ثم يرفعه بوجوههم قائلاً:
- ها هو! من سيدخل أولاً؟
ثم تراقصت ابتسامته الساخرة إلى اليمين وإلى اليسار.. لم يتبرع أحدهم للمهمة، فمد يده بالمفتاح يودعه يد خلف، وهو الأقرب إليه موضعًا، فانتفض، ثم تشجع فطوى لفافته تحت ذراعه، وأدار المفتاح في الباب، وقبل أن يفتحه ارتد للوراء وارتج الدم في عروقه إثر شهقة عالية. تصلّب الجميع في مواضعهم للحظة، ثم التفتوا إلى مصدر الشهقة: كانت طفلة صغيرة ومن خلفها بعض صبية على جانب من الممر، اقتربت الطفلة خطوتين وقالت بلهجة عاتبة:
- ما الذي تفعلونه؟ ألا تعرفون أن الضيعة مسكونة؟
حدجها الرجل الضخم ذو الحاجب المرتفع بنظرة شرسة، وقال آمرًا:
- لا شأن لكِ، خذي رفاقك وانصرفي.
لكنها لم ترتح إلى هذا الحل دون أن تؤكد الأمر:
- وكيف أنصرف دون أن أعلمكم أن الضيعة مسكونة؟
انفلتت أعصاب الرجل الضخم، فانقض يقطع المسافة تجاهها في خطوتين، توارى خلالهما الصبية خلفها، وقبل أن تعي ما يحدث هوى بكفه الغليظة فوق خدّها مؤكداً:
- قلتُ لكِ أن تنصرفي.
اشتعل غضب عماد ثأرًا للطفلة، وركض تجاه الرجل الضخم فدفعه عنها ملقيًا به أرضًا:
- كيف تمد يدك على طفلة صغيرة؟
واحتوى الطفلة بذراعه، هب الرجل الضخم واقفًا عازمًا على النيل منه، فأسرع الجمع من فورهم يحجمون الرجل الضخم ويحولون بينهما ملقين بعبارات التهدئة، لا يعيرهم عماد اهتمامًا، يُنزل كف الطفلة عن وجهها فيرى آثار الضربة على خدّها، يربّت على كتفها، فترفع إليه عينًا متلألئة بالدموع وتقول:
- صدّقني الضيعة مسكونة.
- أعلم.
- بل صدّقني الضيعة مسكونة، أنا وإخوتي نسكن بالجوار، وكل من يسكن هنا يقول أنه رأى شيطانًا.
- أصدّقك، ولكنك يجب أن تأخذي إخوتك وتعودي للمنزل الآن حالاً، حسنًا؟
- ولكن...
قاطعها:
- ما اسمك؟
- سارة.
- هيا يا سارة.
- وأنت ما اسمك؟
- عماد.
- انتبه لنفسك يا عماد.
ثم تمسك بأكف إخوتها، وترتد مبتعدة.
يرمق الرجل الضخم ذو الحاجب المرتفع عماد بنظرة حقد، ثم يتقدم. وعلى الباب، يتولى ناجح ـ مشكورًا ـ قيادة المجموعة فيحفظ وقتًا ثمينًا من التعازم، يدير المفتاح في الباب، ويدفعه.
يطالعهم ظلام غير مكتمل، تتراقص فيه الخيالات. يتناول ناجح كشافًا، ويمضى يشق طريقه يتبعه الآخرون، وكأنما يتحدث إلى نفسه، يقول بصوت خفيض:
- قال عتريس القاعة في آخر الممر، ليس من مجال للتيه.
تلاعب خيالاً عملاقًا باتجاهه، فخرج منه الصوت أقرب للنساء:
- وقال ألا نلتفت للخيالات!
وفي آخر الممر، كانت القاعة الموصوفة فسيحة جدًا ومقبضة، وفور دخولها، توجه ناجح إلى أحد الأركان فوضع الكشاف جانبًا وأشعل عود ثقاب، وباستخدامه أشعل شمعات شمعدان:
- كل شيء كما وصف عتريس بالضبط.
ثم اتجه إلى ركن آخر يشعل شمعات أخرى، وتولى خلف إضاءة الركنين الباقيين، وحين توهجت الشمعة الأخيرة بالنار اتضحت ملامح القاعة:
إنها قاعة مستطيلة على جانبها الأيمن نافذة، وفي مقدمتها مكتب عملاق من خلفه كرسي جلدي فخم، وإلى أمامه مقعدين. وفي المنتصف هناك تمثال لخليط من الحيوانات أو شيء ما، ومن حوله دائرة من خمسة مقاعد. وبشكل تلقائي، توجه كل منهم إلى أحد مقاعد الدائرة، وبقي عماد متأخرًا في الخلف.
جالسين إلى المقاعد، واضعين لفافاتهم فوق أفخاذهم، ثم مديرين رؤوسهم تجاه عماد، فتحرك مرتبكًا نحو مقدمة القاعة يجلب مقعدًا من أمام المكتب:
- لابد أن عتريس قد أخطأ بالعدد.
أفسح له ناجح إلى جواره، ثم رفع كفيّه إلى جانبيه يبحث عن كفيّ جاريه، وحين اكتمل تشبّك الأصابع قال ناجح:
- والآن، اغمضوا عيونكم، واستجمعوا تركيزكم، فهل أنتم مستعدون؟
ارتجفت الرؤوس قليلاً فيما يشبه الإيماءة، فبدأ ناجح عدّه التنازلي:
- ثلاثة.. اثنان.. واحد
انطلقوا يرددون في صوت واحد:
- أبرا-كادابرا.. أبرا-كادابرا.. أبرا-كادابرا
تعلم عماد كلمتهم، فردد معهم:
- أبراكادابرا.. أبراكادابرا.. أبراكادابرا
ومن النافذة المطلة على الحديقة، طرقات خفيضة، وصوت طفولي:
- عماد، عماد، هل أنت هنا؟ لقد أرجعت إخوتي للبيت وعدت لك.
يفتحوا عيونهم، يرسل عماد نظره إلى النافذة، ويهتف ناجح:
- تبًّا!
تمر لحظة صمت، يعاودون إغلاق العيون، والنداء:
- أبراكادابرا.. أبراكادابرا.. أبراكادابرا
- عماد، عماد، أنا أعرف أنك هنا، فاخرج من هنا سريعًا، هذا المنزل يحوي شيطانًا
يهب الرجل الضخم غاضبًا:
- سأكسر رأسها.
يوقفه عماد بإشارة من يده ونظرة حزم، ثم يثبّت نظرة الحزم على وجهه ويتجه إلى النافذة على الجدار الأيمن فيفتحها ويطل منها، تشرق لرؤيته لكنها تُصدَم من نظرته والتقطيبة فوق جبينه كما أنه يرفع حاجبه مثل حاجب الرجل الضخم:
- ارحلي من هنا حالاً وإلاّ كسرتُ رأسك!
تتراجع للوراء فورًا، يغلق النافذة بقوة، ويعاود الدخول في الدائرة، يتهيأ الجميع لمتابعة العمل غير أن المفاجأة تلجمهم، تتوهج عينا التمثال في وسط رأسه الذي يشبه رأس الديك، تتلوى قدماه اللتان تشبهان الثعابين، أما ما دون ذلك فهو جسد بشري على ما يرام.
يشهق بعضهم، ينتفض بعضهم في موضعه، والبعض يتراجع للوراء، وتهمس الألسن أسفل العيون المتسعة:
- أبراكساس! أبراكساس!
يخطو التمثال الذي استحال شيطانًا من بينهم.. ينساب فوق ساقي الثعابين نحو المكتب، ثم يتخذ مقعده خلفه. ينتفض الجميع واقفين في صف قبالته، ويحنون الرؤوس.
يرمق عماد هذا المشهد بأعين عمياء من موضعه بأقصى اليمين، يبتلع ريقه بصعوبة، ها قد انقلب الهزل جدًّا، أو أن الأمر كان جادًا منذ البداية، وقد غرّه نزق الشباب. إن رفاقه هنا يحملون قرابين لأبراكساس، كما أن أبراكساس هنا ينتظر قرابينه، وإنه قد تورط أكثر من اللازم، والمشكلة أنه تورط خالي الوفاض.
يشير أبراكساس بعصاه نحو الأول في الصف من ناحية اليسار، فتتخبط ساقي راضي بينما يتقدم، يتوقف أمام المكتب فينزل لفافته أمامه ويحني رأسه قائلاً:
- لقد جئتك يا كبير الشياطين أتودد وأتقرب إليك، حاملاً قرباني الذي انتقيته على عيني طمعًا في أن يعجبك، وكلي أمل في أن أكون رجلك الذي تعتمد عليه وتفتح له أبواب مجدك وسلطتك.
أشار أبراكساس إلى اللفافة، وقال بصوت عميق يصدر من بين منقاريه:
- افتحها.
تعثر راضي في فتح اللفافة، واستغرق وقتًا أكثر من اللازم، ثم بالأخير أزاح الأوراق عن جثة قطة سوداء قصيرة الفرو هزيلة يتخثر الدم أسفل عنقها وترسل بصرها الشاخص إلى بعيد، وما إن بدت من اللفافة حتى قال راضي:
- أعلم يا كبير الشياطين حلول شياطينك في القطط السوداء، ومهابة العامة لها، ولكني بقلبي الميت تخلصت من كل مشاعري وتتبعت قطًا بريئًا يبحث عن وجبته بين صناديق القمامة، وقبل أن يشبع جوعه قتلته متضوّعًا لأقدمه على طاولتك أيها الكبير، والأمر لك.
أشار له أبراكساس أن يبتعد، وقال بصوته العميق:
- الذي يليه.
تقدم خلف متخبطًا نحو المكتب، فأنزل لفافته وقام بفك أوراقها بأنامل مرتعشة، ثم قال بابتسامة مهزوزة:
- لا أتحدث عن القطط، أتقدم لك يا أبراكساس العظيم بقربان بشري من لحم ودم..
تبدت الساق البيضاء من بين الأوراق، فتراجع خلف خطوة للوراء مكملاً حديثه:
- لقد قضيت ليلتي أفكر في قربانًا يروق لك، وفي كل مرة أعجز عن التفكير ألجأ إلى الاستغراق في الرذيلة، هذه المرة وبينما أوقع بالبنية البيضاء الجميلة بين يدي وجدت الفكرة تتأجج بقوة في عقلي، وكما استمتعت بها فإن أبراكساس العظيم أولى بكل متعة، لم أنتظر أن أتم مواقعتها، ولم تكن لتكتمل لذتي بغير أن أرفع السكين العملاق فأهوي فوق ساقها الغضّة، لم تفق من نشوتها أو حتى تستشعر الألم، كان الذهول قد ألجمها عن أي شيء، وهذا عن أمري يا أبراكساس العظيم، والأمر لك.
ثم تراجع إلى موضعه، مد أبراكساس عصاه يتفحص الساق أمامه، ثم رفع عين الديك تجاه ناجح وقال:
- الذي يليه.
تقدم ناجح في ثقة حاملاً لفافته، أنزلها إلى المكتب ونظر باستهزاء إلى اللفافات المفتوحة إلى جوارها، ورفع عينه ينظر إلى عيني الديك في ثبات، ثم قال:
- أمضيتُ عمري في انتظار لحظة كهذه، لحظة أن أقف أمامك حاملاً قرباني الذي أثق بكل خلجة في جسدي أنه سيعجبك، إنه القربان الحق وليس الهراء الذي على طاولتك.
يزيح الأوراق دفعة واحدة، فتتبدى رأسًا بشرية بلحية طويلة ودم متخثر أسفل العنق:
- ها هو قربانك يا ملك العالم السفلي، ليست رأسًا لقطة ولا غانية، لقد أتيتك برأس ألد أعدائك، كان يحاربك في كل موضع تطؤه قدمه فوق الأرض، يحذر الناس منك، ينبئهم بحيلك للإيقاع بهم، يطرد أعوانك من أجسادهم، وكان يكرهك، وبعد أن انتهى من موعظته المعتادة، عرضت عليه أن أقلّه بسيارتي لأتبرك به وآخذ بنصيحته في أمر يخصك، ولبراءة سريرته، قبل الركوب معي، فأخذته إلى الصحراء واجتززت رأسه بينما أنظر لعينيه كما أنظر لعينيك، وها أنا أرفعها بين يديك يا ملك العالم السفلي، والأمر لك.
يوميء أبراكساس برأسه، ويشير له أن يعود إلى موضعه، ويقول:
- التالي.
يأخذ الرجل الوسيم شهيقًا عميقًا، وبرغم هول الموقف، لا تتلاشى الابتسامة الساخرة عن وجهه، يحمل لفافته الهزيلة ويتقدم، وقبل أن يصل إلى المكتب يكون قد فض أوراقها وانعكس الضوء الشاحب فالتمع على نصل الخنجر، نقّل الخنجر يمنة ويسرة بين يديه قائلاً:
- من بين مريدينك يا ملك العالم السفلي وطالبي ودّك، لن تجد، من يقبل أن يقتطع قربانك من جسده.
يبسط الرجل الوسيم خنصر كفه اليسرى على المكتب، ويهوي بالخنجر فوقه فتنفجر الدماء ويتعالى صوت احتكاك النصل بالعظم يقشعر الأبدان، يتعالى معه صراخه المكتوم وتتبدى الآلام على وجهه. تتسع عيناه حتى آخر مدى ترقبان إصبعه الذي انفصل، وارتجف جسده قليلاً في موضعه، حتى اطمأن الوسيم إلى صنيعه وتراجع خطوة للخلف ماسحًا جبينه بذراعه، وقائلاً في صوت واهن:
- إصبعي ووسامتي وكل جسدي فداءك يا ملك العالم السفلي، وأثق بأنك ستقدّر القطع القيّمة، والأمر لك.
وفي طريق عودته إلى موضعه، تراقصت ابتسامته الساخرة من جديد، بينما ينظر إلى رفاقه بنظرة تفوق، ويترك على الأرض خيطًا من الدم، ومن خلف ظهره يتعالى صوت أبراكساس:
- الذي يليه.
ينظر الرجل الضخم إلى جاره الوسيم بنظرة غيرة، ينظر إلى اللفافة بين يديه بنظرة حسرة، يتعالى صوت أبراكساس مكررًا بنبرة غاضبة:
- الذي يليه.
يرتبك الرجل الضخم في موضعه، يكاد يتقدم لولا أن يوقفه نداءًا ناعمًا من خلف ظهره:
- عماد!
يلتفت في دهشة، يلتفت الجمع إلى الطفلة على باب القاعة، ويدق قلب عماد بشدة، تتقدم في دلال طفولي:
- يا عماد...
ثم تتوقف وتطلق صراخًا عظيمًا حين ترى أبراكساس الذي هب واقفًا من خلف المكتب، يركض عماد إليها يديرها للخارج:
- اخرجي الآن، اركضي
وفي لمح البصر، يلتقط الرجل الضخم الخنجر من يد جاره، ويركض إلى الطفلة فيرشق الخنجر في صدرها ويشقّه إلى نصفين.
يتبدى أبراكساس خلف رأس الطفلة، يرفعها الرجل الضخم بين يديه ويوجّهها نحوه قائلاً من بين لهاثه:
- هكذا يجب أن يكون قربانك يا ملك الشياطين، كنت قد جهزتُ لك قربانًا ليعبر لك عن قوة بأسي ويكون قربانك المقبول، ولكني أدركتُ الآن أنه لا يليق بك، قربان ملك الشياطين يجب أن يكون طازجًا حار الدماء، يجب أن يلفظ أنفاسه بين يدي ملك الشياطين، ولعمري هذا هو المعنى الوحيد للقربان المقبول، والأمر لك.
تلفظ الطفلة أنفاسها الأخيرة بين يدي عماد، وترفع عينيها تجاهه، يحبس دمعة داخل عينه ويقول:
- لماذا فقط جئتي إلى هنا!!
- أصدّقتني الآن أن بالضيعة شيطانًا؟
ثم تسلم روحها. يلتفت أبراكساس بحدّة نحو عماد، ويقول بصوته العميق:
- الذي يليه.
ثم يتركه ويتقدم نحو مكتبه.
يبتلع عماد ريقه، يغمض عينيه للحظة، يخفي فيها دموعًا كثيرة بالداخل، ثم يترك جثة الطفلة ويتقدم في ثبات نحو أحد أركان القاعة يحمل شمعدانًا، وينزله فوق المكتب.
ينظر إلى أبراكساس، يطلق زفيرًا من صدره، ويبدأ في خلع سترته، يتلفت الرجال نحو بعضهم، ويتساءلون عن كنه ما يفعله. يتناول السترة فيرفع بها فوق نيران الشمعدان، وحين لا تتأذى السترة يرتفع صوته الجسور قائلاً:
- انظر يا أبراكساس، إنه من جلد طبيعي.
يدير راضي رأسه لناجح، ويهمس:
"يناديه أبراكساس من دون ألقاب"
يومئ ناجح برأسه ويقول:
"المراوغ! وأنا الذي ظننته يعني أن قربانه في جيب السترة!"
يحمل عماد السترة فوق كتفه، ويدور يتحدث نحو صف الرجال واحدًا واحدًا:
- الجميع أدرك أن قربان أبراكساس يجب أن يكون غاليًا، حتى أن أحدكم اقتطع إصبعًا من جسده، ولكن من منّا ينكر أن الذي أغلى من جسده هو جسد أمه؟
انظروا إلى جلد السترة الناعم، لقد صنعته من جلد أمي بعدما قد ذبحتها وقمت بسلخها بعناية لأحصل من جلدها على قطعة تصلح لأن تعمل سترة لي، كنت نائمًا أفكر في قربان يصلح لأبراكساس، ومن فرط استغراقي بالتفكير لم أشعر بلسعة البرد الذي يتزايد ليلاً، أتتني، بغمص نومها في عينها، تطمئن إلى تدفئتي ليلاً، ورفعت الغطاء إلى عنقي، وبرقت الفكرة في عقلي، لم تكلمني، ظنتني نائمًا فلم تشأ تزعجني، واستدارت لتبتعد، غير أنها لم تبتعد، مددت يدي ثبتّها من معصمها، شهقت، ثم سألتني بحنو: "هل أنت متيقظ؟" لم أجبها، كنت مستغرقًا في الإعداد لخطتي، شددت من قبضتي على معصمها، ارتبك صوتها: "ما بك يا عمادي"، فقد كانت تدللني، قلت لها: "أريد أن أتدفأ"، فضمّت بيدها الحرّة الغطاء عليّ أكثر، لكنني أزحته وقلت لها: "ليس بالغطاء"، سألت بدهشة: "إذًا بماذا؟"، قلت بثبات: "بجلدك"
اتسعت الأعين، وبدا فيها الانبهار، وعماد مستمر:
- كانت تبكي وكنت أؤكد لها أنني أحتاج إلى سترة جلدية، عرضت عليّ أن تشتري لي أفضل سترة في السوق، وإن كلفها الأمر أن تستدين، لكنني رفضت وأخبرتها أن ما أريده بالضبط هو جلدها، وبرغم بشاعة الأمر فقد تفهمت، قلب الأم بصدرها لم يحتمل أن تتركني أبرد، وعرضت عليّ أن تمنحني جلدها فأصنع السترة، على أن أبقيها حيّة، غير أن قلبي الميت لم يستسغ أن أرى دائنتي كل يوم بعدما قد أخذت جلدها، فآثرتُ قتلها.
التقط أنفاسه، وتعالت الشهقات إذ يقول:
- كان هذا عن أمي، كنتُ بحاجة إلى جلد سترة كامل، أما عن أبي وإخوتي فلم أكن أحتج لأكثر من الياقات والأساور.
عاد للوقوف أمام أبراكساس:
- ومن بعد هذا كانت الدباغة والحياكة والتقفيل، وها أنا أقدم قرباني وأثق بحسن تقديرك يا أبراكساس العظيم، والأمر لك.
ثم رجع يقف في موضعه أمام أعينهم المتلألئة حقدًا. يرجع أبراكساس بظهره للوراء، ثم يدور بمقعده للخلف، فيما يأتيهم صوته وكأنه يتحدث في أذن كل منهم:
- خمسة قرابين مرفوضة، وقربان مقبول...
تهب القطة السوداء واقفة فيما تميل رأسها على صدرها، وتموء مواء ضعيف، بينما يتحدث أبراكساس لـ راضي:
- القطط السوداء شياطين متجسدة، مفهوم لا بأس به، ولكن فاتك أنك إذ تقتل قطة سوداء تقتل واحدًا من أعواني، وفي ظروف أخرى لم يكن ليكفيني عنقك، قربانك مرفوض ودمه في عنقك.
تقفز القطة السوداء من فورها وتذهب تتمسح في قدم راضي، فيما تعتدل الساق البيضاء واقفة وتدبدب بقدمها فوق المكتب، ويتحدث أبراكساس إلى خلف:
- ساق لطيفة جدًا قد سال لها لعابك البشري، ولكن هل تظن أن كبير الشياطين سيسيل لعابه من أجل ساق غانية؟ ولولا أن أتمالك نفسي لكنت أندمتك على إهانتك، قربانك مرفوض ودمه في عنقك.
تخطو الساق في ثبات نحو خلف، ثم تصنع دوائر من حوله، بينما تنفتح أجفان الرأس عن عينين شرستين تدوران في المكان وتتوقفان على ناجح بالذات، ويقول أبراكساس:
- رأس عدوي... هممم.. قربانك كان ليكون من أفضل القرابين التي تلقيتها اليوم، لولا أنه فاتك أنه لم يكن عدوي، بل كان أكثر طوعًا لي من بناني، وكان يواقع الفتيات اللاتي يطرد شياطيني منها، ولم يترك من الموبقات ما لم يفعله سرًّا، وكان شخصًا آخر نهارًا، وكان أعز عليّ من شيطان جهير مثلك، قربانك مرفوض ودمه في عنقك.
تتوجه الرأس إلى ناجح الذي سقط فكه في عدم تصديق، وتتمسك بأسنانها في ثوبه، فيما يقف الإصبع ويشير تجاه الرجل الوسيم الذي راحت ابتسامته تتلاشى رويدًا بينما يتحدث أبراكساس:
- ماذا لدينا هنا؟ آه، إصبع تم قطعه أمام عيني وإهدائي إياه، أحب الدم الحي ولكن هل تظن أن سيد أسياد العالم السفلي من الممكن أن يقبل مساعدًا معيوبًا؟ كان يجب أن تعرف قيمة الذي تتقدم لنيل رضاه، قربانك مرفوض ودمك في عنقك.
يقفز الإصبع فيصطدم بجسد الرجل الوسيم الذي تلاشت ابتسامته أخيرًا، وتقلبت الطفلة في نومتها ثم قامت تطل عيونها بالشرر تجاه الرجل الضخم، وقال أبراكساس:
- قربان كامل حار الدماء، قربان حي تم الإعتداء عليه غدرًا في حضرتي وبيتي ودون استئذاني، مثلك يجب أن يختفي من ناظري الآن حالاً لو أراد النجاة بحياته، قربانك مرفوض ودمه في عنقك.
تصيب الرجل الضخم الصدمة، يحاول التخفي خلف أحد المقاعد من نظر أبراكساس، في ذات الوقت الذي يحاول فيه الإفلات من الطفلة التي تعلقت بعنقه وشبّكت كفيها جيدًا ببعضهما، استدار أبراكساس، تناول السترة فوق عصاه، وقام عن مكتبه متجهًا إلى عماد الذي انحبست أنفاسه وتعلقت عينه بمنقار الديك المنفرج، مرت لحظات ثقيلة قبل أن يقول أبراكساس:
- أما أنت...
تعلقت كل العيون بأبراكساس، خمسة قرابين مرفوضة، ولم يبقَ إلاّ قربان، خمسة قرابين مرفوضة وقربان أخير عن جد ’قربان‘، خمسة قرابين مرفوضة ويتمنون بكل عزمهم ألا يُقبَل القربان الأخير، قال أبراكساس:
- أما أنت فذكاءك نادر..
زاغت أعين عماد في محاولته لفهم مقصد أبراكساس، وإن كان قد ابتلع طٌعمه، أو كشف أمره، أم انتهى أمره تمامًا! قال أبراكساس:
- حقيقة.. يعجبني مخك، أنت الوحيد الذي قدمت لي قربانًا يعجبني، أمك؟! لقد استمعت إليك أتعلم يا فتى! شرّك مستطير، قلبك ميت، أعصابك ثابتة. أنت الذي أبحث عنه، وقربانك مقبول.
تحترق كل الصدور بالغيرة، وتزوغ عينا عماد في ذهول:
- أنا!!
يؤكد أبراكساس:
- نعم، أنت. وسيكون على رفاقك الآن تنفيذ الطقس الأخير لتتويج مساعدي الأبدي الذي ستفتح له كل البوابات ويملك النفوذ والقوة والسلطة.
تتسع ابتسامة عماد غير مصدّق، تستحيل ابتسامته ضحكًا عاليًا فيما يبرطم زملائه غلاً، يتراجع أبراكساس خطوة للوراء:
- تذكرون الطقس الختامي الذي أخبركم عنه عتريس.
يشير بعصاه المغطّاة بالسترة نحو عماد، ويقول:
- فنفذوا الآن.
يتسارع الجمع الحاقد بتقييده، فيصيح في ذهول:
- ماذا تفعلون، ماذا تفعلون؟
يتناول الرجل الضخم الخنجر ويتقدم في اتجاهه، تلتقي عين عماد الذاهلة بنظرة عتاب في أعين الطفلة الميتة المتعلقة بعنق الرجل الضخم، وفي لحظة يغرس خنجره بصدره مرددًا:
- هذا من أجل أن تُفتح لك البوابات وتتحرر روحك وتُكشف عنك الحجب يا بن المحظوظة!
ينفذ الجرح إلى قلبه الميت، يتاح له مثل ثلاث ثوان باقية، ولكنها كافية لأن يدور بخلده التساؤل: هل نجح في خداع أبراكساس، أم أن أبراكساس هو الذي خـ... عفوًا، انتهى الوقت. تتصاعد روحه، ومعها تتصاعد ضحكات أبراكساس في أرجاء المكان:
- هذا هو جزاء من يحتال على كبير الشياطين وملك ملوك العالم السفلي، كان بودّي أن أنخدع لك لولا أني أنا الذي يوسوس بالخديعة، أنا الذي أعرف أمرك ما إن أنظر إلى وجهك، أنا الذي أسري في دمك ودم أهلك، وأنا الذي كنتُ لأشاطرك عشاءك من ملوخية أمك، ولكن حقًا، حقًا، يعجبني مخك.
يتوقف الجميع في ذهول يستمعون إلى أبراكساس، تتصلب الدهشة على وجوههم، تتداول بعض العبارات الخفيضة:
"ما معنى هذا! هل خدعنا جميعًا ابن الملاعين هذا؟"
"ما أوقحه كاذبًا وواثقًا كان ليدّب إصبعه في أعيننا جميعًا"
"ليته لم يمت لكنتُ قتلته بيديّ هاتين"
واحد فقط يتمتع بذكاء نادر وبديهة حاضرة، واحد يتمتع بقلب ميت، انسل من بين الجمع فالتقط ثِقلاً من فوق المكتب وأنزله فوق رأس جثة عماد فانشطرت إلى نصفين، ثم مال يملأ راحتيه من المخ الذي ينسال، ويرفعه نحو أبراكساس الذي التمعت عينه إعجاباً وقال:
- المخ الذي يعجبك هو قرباني إليك يا ملك ملوك العالم السفلي.
(تمت)
.................................................. ............................
اتمنى ان تكون عجبتكم القصة
و الان جاء الموعد مع القصة الرعب الثانية
القصة بعنوان : قصة فرار يهوذا 
[IMG]http://1.bp.*************/-vrpObgla7Kg/UcCRuqQIEwI/AAAAAAAAAG0/27sueMCw7Xo/s320/397459_585094404844051_417404112_n.jpg[/IMG]
في القرن الخامس عشر طبع (دافينشي) لوحته (العشاء الأخير) على جدار دير القديسة (ماريا) بإيطاليا.. ألوان زيتية على جص جاف غير ثابت تقنيًا.. ماذا تتوقع.. هاه؟ تحللت.
أنت تعرف (يهوذا): يـ - هـ - و - ذ - ا... من لا يعرفه؟! السؤال: عندما بدأ (يهوذا) في التلاشي من اللوحة، أين ذهب؟
لا تسألني عن حوادث الخيانة المتعددة التي وقعت في الأعوام التالية... إن رجلاً بعمري لن تعمل ذاكرته بأفضل من مصفاة. فقط أخبرك أنهم ما إن يجلسون إلى كرسي الاعتراف لا تسمع منهم سوى عبارة: "لا أدري.. كأن روحًا شريرة تلبستني، ودفعتني دفعًا للخيانة."
أما أنا، فكثيرًا ما كنت أعرج إلى دير القديسة (ماريا)، فأقف أمام اللوحة المتحللة وأسأل نفسي: "تُرى كيف تراني اللوحات، هل أبدو لها أيضًا كلوحة متحركة؟"
وأنت.. ماذا يكون شعورك وأنت واقف أمام لوحة؟ هل تشعر بالجلال اللازم؟ صديقي (بيتر) كان مأخوذًا، إنه مولع إلى درجة الهوس، وفي العام 1977 أوشك أن يفقد عقله.
.
.
.
يقف أمامها منكس الرأس، كسير البال والنظرات:
"قولي لي ما سرّك؟
أيتها القديسة الطاهرة ما سرك؟
يا ذات الابتسامة الخالدة الساحرة الفاتنة الكامنة، ما سرّك؟
يحكم قبضته على لا شيء ويصل أسنانه:
"لماذا أنتِ له؟
لماذا لستِ لي؟"
يوجّه قبضته إليها وقد علا صوته:
"لماذا منحته سرك؟"
جُرحت أصابعه، نقّل نظره بين أصابعه الدامية وبينها: كانت لازالت تبتسم..
نظر بغل:
"أيتها القاسية، ما سرّك؟
أيتها العاهرة الفاجرة، ما سرك؟
يا ذات الابتسامة الساخرة الماجنة المداهنة الخائنة، ما سرّك؟"
سقط على ركبتيه يبكي:
"يا ويلي إن لم تمنحيني سرك..
يا ويلي...."
~
تطرق زوجته الباب، ينتفض، يتلفّت حوله، يفتح فرجة صغيرة يسدها بجسده:
- ما الأمر يا عزيزتي؟
- ما أمرك أنت؟
تتطلع إلى ما خلفه:
- تكلم من؟
- لا أحد.
تقصيه، وتعبر:
- لكني سمعتك تتحدث..
تفتش أركانها جيدًا، تنظر بشك إلى ستار، وفي لحظة يقين تزيحه: تتجمد ملامحها لحظة، ثم تغرق في الضحك.
- أتحدث هذه؟
يبتسم بارتباك:
- يحيرني سرها
- ومن أين حصلت عليها؟
- من بائع لوحات مُقلَّدة
- ولماذا زجاجها مهشم هكذا؟
تلتقط كفه الدامية:
- يا إلهي! هل جُرِحت؟
يفلتها:
- لا عليكِ.. جرح بسيط
يحوطها بذراعيه:
- أكنتِ تظنين معي امرأة؟
- وهل تقدر؟
- ولِمَ لا؟
تتفلت بدلال:
- لأني كنت أقتلك حينها، سأحضر مطهرًا
- فيما بعد
يجذبها من ذراعها برفق، ويجلسها أمام لوحة فارغة، يضع غلالة شفافة على رأسها، ويثبتها إلى صدرها ويقول:
- أريد منك نصف ابتسامة، ربع ابتسامة..
ثم تلتمع عيونه إذ يقول:
- أريد ابتسامة ’(الموناليزا)‘
تنفض الغلالة في بساطة، وتقول وقد مدّت الألف:
- ثانية؟
ينظر بحزم:
- لن أكتفي منها قبل أن تصير لي
- هي فاتنة فعلاً
يثور:
- لا! ليست فاتنة! ليست رائعة الجمال، ولا ابتسامتها أروع الابتسامات، ولا اللوحة مبهرة فنيًا، ولا يوجد بها سبب واحد يبرر هذه الشهرة المريعة التي نالتها وخلدت صاحبها... وإنني لأدفع نصف عمري وأعرف سرها!
- هوّن عليك يا عزيزي، غدًا ترسم ما هو أروع منها.
- أنا لا أريد ما هو أروع. أريدها هي.
يعيد تثبيت الغلالة إلى ثوبها.. يضبط جلستها: يدير جزعها إلى اليمين قليلاً، ويضع يدها اليمنى على رسغها الأيسر.. ويبدأ في تليين ألوانه..
لكم من مرة سقطت الغلالة، أو بدّلت جلستها، فكان يبتسم في صبر ويساعدها على الرجوع إلى الوضع الأصلي.. أما المرة الأخيرة التي رفعت فيها يدها في مواجهة فمها إذ تتثاءب، فقد تبدل في ثانية، وارتجف قطّهم الأسود: إن القط يشعر لكنه لا يستطيع أن يبوح. لا يملك أن يصف وهج ذاك الشرر الذي تطاير من عيني (بيتر). رمى فرشاته، والتفت إلى زوجته. وإذ تنظر في عينيه هالها أنها لم ترَ انعاكسها. رأت انعاكس الـ مونا—ليزا!! وحين نطق أخيرًا ضاغطًا على كل مقطع من كلماته قال:
- ألم ـ أطلب ـ منكِ ـ ألا ـ تتحركي؟
كان صوته رهيبًا؛ أجشًّا عميقًا لكأنه يأتي من قرون ساحقة... تصلبت دهشتها على وجهها، لم تغلق فمها بعد التثاؤب.. لم تغلقه حتى بعد أن تلقت تلك الصفعة.
~
للمرة الأولى منذ زواجهما تتلقى (ماريا) معاملة كهذه. (ماريا) الفاتنة الحالمة التي تحدت أهلها من أجل الزواج من رجل بلا عمل لا يفعل شيئًا في حياته سوى الوقوف أمام اللوحات لينتج ما ينتجه طفل في كراس رسمه: محض انبعاجات! ثم لا يُفلح في إقناع أي ساذج بشرائها. لقد تخطت كل شيء وغامرت برضاء الرب لتهرب معه وتتزوجه رغمًا عن أهلها.
إنهم لا يعرفون دورًا للرجل غير أن يمد المرأة بالمال، لا يعرفون أن الرجل هو الأمان، هو الحماية، هو الاكتفاء. دعك من أن (بيتر) لم يكن يومًا شيئًا من هذا، لكنه في الليل حين يأخذها في حضنه ويقول لها: "أحبك" كانت تشعر بالسعادة.
لقد أغضبها مرات فيما سبق لكنه كان يأتي دومًا لمصالحتها. هذه المرة حينما يأتي لن تصالحه، نعم، لن تصالحه من أول مرة، إنها تستحق بعض الدلال.
(ماريا) الرقيقة، لم تتخيل أنها ستضطر في النهاية إلى التذلل لـ (بيتر) حتى يقبل مصالحتها، على مضض.
~
حين يصلّ المفتاح في باب المرسم غالقًا عنها عالمه، يصل في أبواب عقلها فاتحًا كل أبواب ذكرياتها عن الغرف المحرّمة..
كان عليها أن تتكيف مع عاداته الجديدة: الاعتكاف طوال اليوم في المرسم، مناجاة اللوحة، الصراخ، الهذيان، ثم الصمت الموحي بألف كارثة...
فيما بعد عرفت أنها ليست كوارث بالضبط.. حين يصمت هو ببساطة لا يكون بالمنزل، هو يتسلل إلى الخارج عبر الباب الخلفي للمرسم، ويحضر فتاته التي يعدّها لتكون (الموناليزا)... أما ما يحدث بعد ذلك، فلا تستطيع الجزم.
كانت تشعر في قلبها بالجلال: كأنه اليسوع يبشّر سرًا أو جيفارا يدير تنظيماته أو حتى فرانكنشتاين في إحدى تجاربه المرعبة..
في تلك الليلة، شعرت بشيء مختلف.. بالرغم من تأديته كل الفقرات ببراعة لكن فقرة ’الصمت‘ بالضبط لم ترقها؛ لم تدم عشر دقائق، ثم انفتح باب المرسم عن جسده المبتل. جرى في سرعة قاطعًا الممر إلى غرفة النوم:
- أين المعطف؟
- هل كانت تمطر؟
- أسألك: أين المعطف؟
التقطت المعطف وحاولت أن تساعده في ارتدائه، لكنه جذبه منها ومد الخطا، استوقفته:
- هاك الشمسية أيضًا!
اختطفها في سرعة وعاد في اتجاه المرسم، رفعت صوتها من وراء ظهره:
- مهلاً! لماذا لا تخرج من الباب الرئيسي؟
توقف للحظة، لكأنه لم يفكر في هذا الخيار، ثم تابع سيره، ولن يفكر أيضًا.
~
في الشارع.....
لا تسلني عن الشوارع في حضرة اثنين: القمر، والمطر...
أما لو سألتني فلن أخبرك ما تريد سماعه، لن أخبرك شيئًا عن الغلالة الشفافة ـ كغلالة (الموناليزا) ـ التي غلفت الكون في تلك اللحظة، لن أخبرك حرفًا عن دموع السماء أو غسل النجوم لتنقية الضياء
سأخبرك بأمانة أن الأرض كانت زلقة، سأخبرك بأمانة ـ كي يحبني اليسوع ـ أن الماء والتراب لهما مفعول الطين المقزز... سأخبرك أن (بيتر) ما إن خطا سقط..
هو كان مأخوذًا لا شك.. أحد غيره ما كان يجرؤ على الخروج في ليلة كهذه... حتى الفتيات اختفتن.. فمن أين يحصل على موناليزاه؟
أما السيارة التي يرسلها القدر لتفرمل عنده بالذات، فتنزل منها المتغنجة في ثوبها المكشوف ثم تغمز له بعينها وتتلوى... لهي سيارة مُلهِمة..
يسألها:
- ما دينك؟
- ماذا أيها الشاب الجميل؟
- لا يهم
يجذبها من ذراعها إلى المرسم، يجلسها على مقعد خشبي في مواجهة اللوحة الفارغة، تشهق متمثلة الهلع:
- أهنا؟
ثم تتغلب حلاوة روحها فتقبل على مضض متعجبة من مزاج الفنانين المتقشف ذاك.. يدير ظهره لها منشغلاً بإعداد اللوحة والألوان في حين يقول:
- أريدكِ أن تضحكي
فترن ضحكتها الخليعة الكفيلة بإيقاظ الموتى وإيقاظ رغباتهم معهم. لم تكمل ضحكتها؛ هوت يده على فمها، ودفعتها يده الأخرى دفعًا للخارج:
- ليس هذا ما أريده أيتها العاهرة! اخرجي.
يغلق الباب، يفتح دفتره ويشطب احتمال كون (الموناليزا) محض غانية من بين الاحتمالات.
~
(ماريا) في بلد غريب بلا أهل، وزوجها جُن... فليرحمها الرب.
جاءتني.. دلفت إلى غرفة الاعتراف. في الجو: علق عطرها لا يدري أين يحط.. ضممته بيدي وأوسدته عباءتي المقدسة.. أسندتُ رأسي إلى الحاجز الذي يحول بيني وبينها... يممت وجهي بالجدار، ولكنها أول ما نطقت قالت: "يا أبتي." فليرحمني الرب.
في اللحظة التي شعرت فيها بأنفاس (ماريا)، أدركت أن (بيتر) لم يكن صديقي. إن الرجل الذي يتزوج (ماريا) لن يكن يومًا صديقي.
أصغي إلى كلماتها، زفراتها، تهدج صوتها بالبكاء، نعيها حظها وعويلها، لا تبكي يا (ماريا)، إن هذا الوغد لا يستحقك. وأيضًا تظل آخر كلماتها لي: "يا أبتي."
فقط لو تتوقف عن مناداتي: ’أبتي!‘
~
في الليلة التالية، كان هذا هو موعد (بيتر) مع الاسم الثاني على قائمة الاحتمالات. (بيتر)، قرأ كل حرف كُتب عنها: البعض يرجّح أنها فتاة ليل التقاها (دافينشي)، والبعض رجّح أنها سيدة تُدعى (ليزا) زوجة وأم لعدّة أطفال، وقالوا أنها والدة (دافينشي)، وقالوا أنها محض وهم من مخيلته... حتى ذهبت بهم الظنون أنها المعادل الأنثوي له نفسه... وكأنه يرسم روحه المؤنثة التي قُدّر لها أن تسكن جسد رجل.
(بيتر) علم أن زوج (ليزا) جارته مسافر، إنه تاجر وكثير الترحال، وإنها فرصته. رحبت به (ليزا). إنها صديقة وتعرفه جيدًا، وليس من المستغرب أن يزورها، لكن الغريب حقًا أن أول كلمة نطقها:
- ما دينك؟
- (بيتر)! ما هذا السؤال الغريب... ألا تعرف أنني مسيحية؟
- عظيم! عظيم!
جذبها من ذراعها وقال أنه يحتاجها لأمر هام، بالكاد استطاعت أن تسحب طفليها. أخذها (بيتر) ودارا حول البناية ليدخلا من الباب الخلفي للمرسم. قال لها أن (ماريا) مسافرة وأنه نسي المفتاح، وأن كل ما يريد أن تجلس وتبتسم. و(ليزا) رائعة حين تتخذ وضعية (الموناليزا)... ولا شك أنها رائعة في لقاءاتها الحميمة مع زوجها... إنه يسمع صوتها أحيانًا -- ويتكفل خياله برسم اللوحات.
للحظة اكتشف خدعة أن (ليزا) صديقة، وبدا له وهي جالسة في استسلام أنها عشيقته.. لم تطاوعه الفرشاة، بالرغم من أن (ليزا) كانت قريبة الشبه جدًا من ليزا (دافينشي)... ولكن يبدو أنه لا يكفي أن تشبه الموديل (الموناليزا)، ولكن يجب أن يحصل على خبرة حميمة معها أيضًا.
إن الهاجس بداخله يتزايد، والقط بدأ ينتفش فروه، ويموء ولكأنه يعوي.. وابتسامة (ليزا) تتراقص في عينيه: حلوة ومغرية، ولكنها مآمنة: تظنه محض صديق.. رمى بالفرشاة واقترب منها... للحظة لم تفهم، ثم بصعوبة بدأت تدرك:
- (بيتر) هل جننت؟ إنني زوجة وأم!
ويبدو أن غريزة الأطفال للخطر تحركت كما القطط، بكاء ومواء، وما كان ينقصه أيضًا: طرقات على الباب.
شتت الطرقات انتباهه، حملت (ليزا) طفليها وجرت إلى الخارج، ضرب بقبضته المقعد... تراقصت الشياطين أمام عينيه، فتح الباب وصرخ بـ (ماريا):
- ماذا هناك؟
رجف قلبها، رجل ضخم وثائر ورهيب... كيف تزوجته ذات يوم؟ خطت إلى الوراء:
- لا شيء! لا شيء!
أغلق الباب، وشطب الاحتمال الثاني.
~
عندما زارتني (ماريا) في المرة التالية ـ لك أن تتوقع ـ كانت منهارة تمامًا. كانت تشكي جفاءه لها وهجره إياها، هي لم تقل، لكني شعرت أنها تريد أن تقول أنها تتوق لجسده.. لحسن الحظ أن لم تقل؛ فالفكرة تصيبني بالرجفة: أن تكون (ماريا) بحضن رجل.
قالت:
- إن ما رأيته يا أبتي ليفوق الوصف... تخيّل، تخيّل أن أفتح باب المرسم لأجده يقبّل غانية؟
- وماذا أيضًا؟ صفي لي بدقة حتى تحصلين على العلاج الدقيق بالمقابل.
- ويضع عنها ملابسها، و....
كنت أعرف لماذا تكذب... إنها تريد أن تجد المبرر الذي يسمح لها بالخيانة.. (ماريا)، أحبت صوتي الرخيم منذ سمعته.. لربما تظنَ أنت أنه يمنحني وقارًا، لكن (ماريا) رأته رجولة وحنان معًا... وإنها لتظن أنهما رائعان حين يجتمعان.. أضف لهذا أن صوتي يوحي بالألفة، وقد بدا لها أنها سمعته من قبل.
وحين انتهت أخبرتها ببساطة:
- لربما لم تصدقي، لكني أعذرك.. فليرعاك الرب يا ابنة الرب المخلصة.
- أشكرك يا.... ’أبتي‘
قالتها بدلال، بغنج.. قالتها لتنفيها لا لتثبتها.... قوليها ثانية يا (ماريا): ’يا أبتي.... يا أبتي‘.
~
أجلس (بيتر) أمه أمامه: سيدة طيبة ممتلئة، وبالرغم من أن ملامحها لا تمت للموناليزا إلا أن انعكاسها في عينيه حين يموء القط كان: انعكاس (الموناليزا)...
للمرة الأولى في محاولاته العديدة يشعر أنه يستطيع، إنه يبلي حسنًا، إن نظرات أمه، روحها، ابتسامتها الحنون تشبه كثيرًا (الموناليزا)... جرت الفرشاة على اللوحة تلاحقها أصابعه بشغف... وحين وصل إلى الصدر تصلبت أصابعه، كم رجل بالكون يستطيع أن يرسم الصدر الذي أرضعه؟ للحظة، نظر (بيتر) إلى شفاه موناليزاه الجديدة: إن الكارثة أن اكتشف أنه يـ.. شتهيها!
و(بيتر) مسيحي متدين برغم كل شيء، إنه طوال عمره يشتهي (الموناليزا)... لكنها الآن أمه... إن الهاجس الذي يزوره كلما شرع في رسم موديل لا يجب أن يزوره هذه المرة... لا يجب.
رمى بالفرشاة، إن (الموناليزا) لا يمكن أن تكون أمًّا. أمسك بيد أمه يقيمها بعنف:
- "قفي، تحركي"
لكنه تحيّر إلى أين يسحبها: أإلى باب المرسم الخلفي، أم الأمامي؟
~
تأخرت (ماريا) فانشغلت بتشذيب لحيتي حتى تشممت عبيرها... اللحية مهمة جدًا للوقار و (ماريا) مهمة للخلاعة... فأيهما أهم؟
- لماذا تأخرتِ يا ابنتي؟
- اعذرني يا أبتي إنني لا أستطيع زيارتك حتى يخرج هو من المنزل. إنه جُن! جُن! تصوّر أن يُدخل والدته من باب المرسم الخلفي كما يُحضر عاهراته؟ أنا ذُهلت حين رأيتها تدلف إليّ وأنا جالسة في الصالة: سميت باسم الصليب وعقدته، فهدّأتني وأخبرتني أنه من دعاها بهذا الشكل! إنه لم يعد يعتني بنفسه واستطالت لحيته وأظافره وصار منظره رهيبًا.. إنني أخافه، أخافه
ثم شرعت في البكاء.. إن روح (ماريا) الرقيقة لا تحتمل كل هذه الانفعالات، قالت لي بألم:
- إنني موصومة بالخطايا يا أبتي.. إنني لا أستحق عطفك.. أنت لا تعرف كيف أشعر.. أشعر أن روحًا خبيثة تحوم حولي، لقد توقفت عن الصلاة.. وأشعر أنني أوشك على الخيانة لدى أول رجل يعرض عليّ المتعة... إن هجر (بيتر) أضعفني، وقد ارتكبت بالفعل خطية... وإن الخطية تثقلني فتحملها عني يا أبتي..
في عملي هذا سمعت الكثير من الخطاة الذين يعزون أخطائهم إلى الشياطين والأرواح الخبيثة.. لكن (ماريا) الطاهرة حين تقول أنها أخطأت فأنا أصدّق أنه بفعل الأراوح الشريرة. الخائنون، بالضبط منذ اهتلكت لوحة العشاء الآخير، يتحدثون عن الروح الخائنة التي تتربص بهم وتحركهم... لماذا لا يصارحون أنفسهم ويقولون أن (يهوذا) احتلهم... لماذا، حتى أكثر الناس روحانية، لا يتقبلون فكرة ’حلول (يهوذا)‘؟
(ماريا) التي كانت تحلم في طفولتها أن تصير راهبة لا يمكن أن تخون، للأسف.
كنت أعرف خطية (ماريا)... لكني أريد أن أسمعها منها، أن ألصق أذني للجدار وأستنشق عبير أنفاسها وهي تعترف، وربما، فيما بعد، أذهب أنا للبابا لأعترف أنني استمتعت باعتراف (ماريا). قالت:
- لقد كذبت عليك يا أبتي، لم أره بعيني.. أنا الخائنة وليس هو. إنني.. في الليل... أخلع ملابسي وأنشر جسدي على الفراش... أعرضه لأشخاص وهميين، عرضته على (بيتر) ـ في خيالي ـ لكنه رفض، فعرضته على رجل، لم أره، لا أعرف شكله يا أبتي، لكن صوته رخيم: مهيب... كصوت (بيتر) حين يصرخ بي، لكن الفارق: أن (بيتر)، بهذه القوة في صوته يكون ضدي، أما قوة هذا الرجل فهي لي... إن المرأة يا أبتي تعشق الرجل القوي الذي يسخر قوته لها، تعشق أن تشعر في قرارة نفسها إن هذا الوحش يضعف إذا ابتسمت له. وهذا الرجل: حنون، إنه كذلك لم يرني، لكنه قريب مني يا أبتي.
- وهل قبِل هذا الرجل جسدك؟
- لم أنتظر رده... في خيالي زنيت به. فهل أنا زانية؟ هل تغفر لي يا أبتي كي يغفر الرب؟
ولماذا تفترضين يا (ماريا) أن ثمة علاقة بيني وبين الرب؟
~
شطب (بيتر) احتمال أن (الموناليزا) أم (دافينشي)، وشطب باقي الاحتمالات في القائمة، ثم مزّق القائمة؛ إن التخطيط وتتبع (الموناليزا) مع سبق الإرصاد والترصد: بلا جدوى.. وإن قانون الصدفة لأقوى من كل شيء!
بدأ (بيتر) يفكر أن لو عليه أن يجد (الموناليزا) فعليه أن يسمح بمساحة من الارتجال والفوضى في بحثه، وأن يجرّب كثيرًا جدًا حتى يجد مبتغاه.. أما التأكد من ديانة الموديل فهذا أمر بلا قيمة.. ما يمنع أن تكون (الموناليزا) حتى بلا ديانة؟
ثم ما احتمال أن تكون (الموناليزا) مزيجًا من عدة فتيات؟ فتاة واثنتان وثلاثة في الليلة الواحدة... ألوان تمتزج على اللوحة التي يعلق بها أكثر من عطر.. إحداهن تلقي ظلالها على اللوحة فتظلم وكأنها تتعمد أن تضايقه، إحداهن تلتصق بجسده وهو يرسم فتثير خيالات شهية، وإحداهن تجلس كالصنم بلا حراك...
بائعة الفاكهة التي يغلبها جوعها فتقضم تفاحة، الأرستقراطية التي ترفض أن تُرسم إلا واضعة ساقًا على ساق، المراهقة التي تحتضن كراسها، الكعب العالي جدا.. حمّالة الصدر المشدودة جدًا.. الشعر المنسدل... ألف وجه لألف امرأة ولكنهن جميعًا يرين انعكاس (الموناليزا) في عيني (بيتر).
وفي كل مرة، وبعد أن ينتهي من اللوحة، يحملها فيقارنها بلوحة (دافينشي)، من ثم يرمي بها إلى الأرض، ويمزقها بسكّينه، ثم يلقي بالموديل عليها، ويهوي فوقها.
كان يخونها، كان يستمتع بهذه الفقرة كثيرًا إلى الحد الذي يجعلني أتساءل: هل أراد حقًا أن تنجح رسوماته، أم كان يخشى إن نجحت أن تتوقف زيارات الفتيات؟
كانت تشعر بخياناته، لكنها كانت بحاجة إلى دليل، أن تتأكد؛ فإما تبرد نارها، أو تشتعل لتحرق الكل. وقد أقسمت بالمسيح والعذراء أنها لو أيقنت بخياناته: لستخون.
هل تعرف من المرشّح الأول لتخون معه (ماريا)؟ إنه أنا. أنا المحظوظ الذي سينال لقب: ’عشيق (ماريا) الطاهرة‘. هل تريد أن تعرف أكثر؟ نعم، أحب أن تخون (ماريا) (بيتر) معي، أعني: أن أخون صديقي (بيتر) مع (ماريا). أقصد: أن يخون (بيتر) (ماريا) مع فتيات المرسم.. أو.... أن تخون الفتيات أزواجهن مع (بيتر)... أوه! لا أدري! فقط أعرف أني لا أحب أن يطلق عليّ أحدكم لقب: ’خائن‘، لأنه ـ بالأصل ـ كلكم خائنون.
~
كيف لـ (ماريا) أن تعرف: فكرَت أن تصنع نسخة من مفتاح المرسم، فكرت أن تفتش المرسم بحثًا عن دليل بعد مغادرتهن، حتى أن تنتظرهن على باب المرسم أو تصادقهن ليدلين بالاعتراف.. فكرت في أفكار معقدة وساذجة، ولم تفكر في أبسط شيء.
في زمن، بدا لها موغل في القدم، كان بإمكانها أن تقول لـ (بيتر): "سأقتلك لو أن معك بالمرسم امرأة"، ثم تظفر بحياتها بعدها.. أما الآن.... ولماذا نقارن بالآن إذا لم تكن المقارنة في صالحنا؟
لحقت به وهو يستعد لطلعته التي سينتقي فيها عروسه لليلة، ورمت عليه بالسؤال. أصدُقك، إن صراحة (بيتر) غير متوقعة، وإن هذا لأقصر وأثمر حوار:
- هل خنت؟
- نعم.
التمع الغل بعينها، فأغمضتها ثانية، وحين فتحتها كانت زوجة متسامحة متفانية لا أكثر.. ابتسمت:
- ها أنت تمزح، (بيتر)!
كانت تشعر بحضور تلك الروح الخائنة بشكل مبالغ فيه، لكنها هذه المرة ليست نادمة.. إن لم يستحق وغد كهذا أن تخونه، فلماذا وُجِدت الخيانة في الدنيا؟ جهزت الطعام، أعدت المائدة، أشعلت شمعات الشمعدان... ثم ذهبت تدعوه إلى العشاء..
كان يرتدي بنطاله وقميصه الخاكي.. احتضنته من الخلف، انتفض... قالت برقة:
- أفزعتك؟
- لا! فقط لا أحب أن يحدث شيئًا خلف ظهري... أفضل لو تواجهيني
ارتبكت:
- بماذا؟
نظر إليها بعمق:
- لا شيء..
عاد لارتداء ملابسه، نفضت عنها نظرته:
- أغضبت من تشككي؟ هذا لأني أحبك
نظر إليها بطرف عينه، وتابع الاستعداد..
- إذا كنت مصممًا على الخروج، على الأقل لنأكل معًا.. أنا أعددت العشاء
جذبته من يده برفق إلى المائدة، مهدت له الكرسي وأجلسته.. وجلست في مواجهته، سألته:
- أترفع الصلاة أم أرفعها أنا؟
قال في ملل:
- ارفعيها أنتِ.
ضمت يديها وأحنت رأسها وبدأت في تذكر كيف تقال الكلمات، قالت بصوت خفيض:
- أبانا الذي في السماوات...
فتحت عينيها، أغمضتهما:
- أبانا الذي في السماوات....
تتوق حقًا إلى معرفة ما يأتي بعد هذا، لكنه لا يجييء، يوفر عليها حيرتها، يشطر الخبز ويرمي لها نصفه:
- خذي كلي!
تلتقي يداهما في الإناء.. تلتقي نظراتهما، تسحب يدها في عجل.. تتذكر عبارة قرأتها في كتابها المقدس:
"الذي يغمس يده معي في الصحفة هو يُسَلِّمُني!"
كان يجب أن تتمالك نفسها، لو أن ما بالطعام سمًّا لما بدت أكثر ارتباكًا من هذا.. لذلك حين سكب زوجها الملح بالخطأ ابتسمت، قالت له:
- لا عليك!
ثم ضغطت بيدها على قلبها كي يكف عن الضجيج؛ سكب الملح لن يكن يومًا بشارة خير.
أما اللحظة التي مسح فيها فمه بالمنشفة فكانت أسعد لحظاتها، تركت طعامها وقامت خلفه توصله للباب:
- هل ستتأخر؟
- ربما..
- إذًا حاول ألا تتأخر.. هل يمكنني الذهاب في زيارة قصيرة للكنيسة؟ تعرف... سأضيء شمعة وأدعو العذراء أن تباركنا..
- لا بأس.
- شكرًا يا عزيزي
ثم طبعت قبلة سريعة على خده.. وحين استدار يرقبها في اهتمام تذكرت عبارة أخرى وردت في ظرف مشابه:
"يا (يهوذا)، أَبِقبلةٍ تُسَلِّمُ ابن الإنسانِ؟"
~
عاقدة العزم هذه المرة... رقيقة طاهرة منكسرة في زي عاهرة قاسية جبّارة... خاسرة لكل شيء... لأن (بيتر) كان آخر شيء لها..
- هل تسمعني يا أبتي؟
- نعم يا ابنتي...
- إذًا لماذا لا تجيب؟ إن لدي اعترافًا ولكني أريد أن أقوله لك مباشرة، فاعبر هذا الجدار ودعني أراك
- لكن يا ابنتي طقوس كنيستنا تمنع هذا
- ولماذا يا أبتي؟ إنني أحتاج أن تضع يدك على رأسي وتقول أنك غفرت لي، ألم تتعلق المرأة الخاطئة بقدمي المسيح؟ ألم يرتمِ الابن الضال في حضن أبيه عندما رجع؟ وأنا خاطئة وأحتاج إلى حضنك يا أبتي.
يالبؤسك أيها القدّيس.. لكم أتمنى ولكنني:
- لا أستطيع يا (ماريا)... لا أستطيع...
خرق اسمها أذنها:
- هل قلت (ماريا)!؟
وكيف عرفت اسمي؟
أوه.. إن نشوة اعترافها أفقدني الحذر...
- إن اسم زوجك والطباع التي أخبرتِها عنه تذكرني بصديقي (بيتر).. وأعرف أن زوجته تدعى (ماريا)
- إنها لورطة أن تعرف زوجي يا أبتي... ولكن....
ثم مسحت بيدها على الجدار، وألصقت جسدها:
- لننسى هذه الرسميات الليلة، اعبر إليّ، إنني... أحبك يا أبتي
’أحبك يا أبتي‘... دوامات من الكلمة يعوم بينها قلبي... أبحث كالغريق عن بعض العقل، بعض العقل:
- أستخونين يا (ماريا)؟
- لا تسمها خيانة... إنه قربك يا أبتي
- بل قولي ’خيانة‘ يا (ماريا)... قوليها... لكنني لا يمكنني أن أقترب أكثر من هذا... فأعيريني يدك، سأعبر بها جسدك.. طرقه الممهدة والوعرة... سأذوق مراراته وحلوه، وخذي يدي... مري بها على جسدي.. وما تقع عليه يدك فهو لك.
- وكيف يبدو جسدك يا أبتي؟
- إنه ضخم، جاف، وأسمر اللون.
- أضع عنك عباءتك، أبتي، ماذا ترتدي تحتها؟
- أرتدي بنطالاً وقميصًا من اللون الخاكي
- ماذا!؟
لابد أن (ماريتي) للمرة الأولى تفكر في الربط بين اثنينا: بين صوتينا، جسدينا، وحتى ملابسنا... لماذا لا يمكنها أن تزورني إلا حين يخرج؟ لماذا تشعر بالألفة مع صوتي؟ كيف أعرف صدقها حين تصدق وكذبها حين تكذب.. كيف لم تفكر في هذا الأمر من قبل؟
نثرت (ماريا) كلماتها المبعثرة:
- الخاكي.. كيف.. (بيتر)...
صديقي (بيتر)... نعم، أعرفه، إنه من أقرب الناس إليّ، أقرب شيء. إن (ماريا) في أوهن حالاتها، وهذه هي فرصتي.. وإني في تاريخي لم أجد ضحية قابلة لأن تخون بسهولة أكثر من (ماريا) في لحظتها هذه....
إن هي إلا لحظة... أداعب جسدها بيدها، وخيالها يرسم صورتي: صورة العشيق... لكن روحي تختنق، أشعر بها تنسحب... أحاول أن أتشبث بها، أن أجذبها، لكني لا أجد لها أطراف... أضع ملابسي وصليبي وحُليي، أتخفف من كل شيء، أتخبط في الجدران، أستنجد بـ (ماريا)
تحاول العبور إليّ، تبحث عن فرجة وتدور حول الجدار... ولما تنجح أخيرًا أن تدلف إليّ تصرخ:
- (بيتر)!
ينازعني أحدهم على روحي، وأنازعه، أنا أريد روحي، أريدها، لا يمكن أن تأخذوها، لا يمكن أن تأسروها من جديد في.... لوحة
ينجحون، يسحبونني بعيدًا عن هذا الجسد الذي رقد بلا حراك... تضمم (ماريا) ملابسها، تنحني على زوجها: تستفيقه، وحين يفتح عينيه يطالعها بعيني طفل خاويتين، ويضممها.
يتعكز عليها إذ يخرجان من الكنيسة... الكنيسة التي بدت لهما الآن: خرابًا مهجورًا.. لا يحوي شيئًا سوى البوم والقطط.. لابد أن (ماريا) تنظر إلى المكان بدهشة.. كأنها تراه لأول مرة... لابد أنها تتساءل في نفسها: كيف رأته فيما سبق: كنيسة؟
سيقول (بيتر) أشياء كثيرة، ولكنك تعرفها: سيقول أنه شعر أن ثمة روح شريرة تتلبسه وتدفعه دفعًا للخيانة، وقد أخبرتك من قبل أن كلهم يقولون هذا. سيقول أنه لا يشعر بنفسه حين يعوي القط وتلتمع (الموناليزا) في عينيه: إنني أكون حاضرًا حينها في داخل جسده، وأنت تعرف غريزة الحيوانات للأشياء المريبة. سيقول أن ولعه برسم (الموناليزا) تحول إلى ولع لمواقعة الفتيات اللاتي يرسمهن، إنه الولع بالخيانة، أن يخون هو، ويدفعهن للخيانة... إنني حتى دفعته إلى تمثيل دور العشيق ليدفع زوجته للخيانة... (ماريا) الطاهرة كانت ستخون فقط فقط لو أمهلوني دقيقتين.
سيقول أشياء كثيرة، وسيبدو عليهما معًا العجب، حتى حين تخرج صحف الغد بخبر: "النجاح في ترميم لوحة (العشاء الأخير) لـ (دافينشي)" ستظل عقولهم المحدودة عاجزة عن اكتشاف السر.
~
لقد سألتك من قبل عن شعورك وأنت واقف أمام لوحة، ولم يكن سؤالاً جديًا.. كنت أريد أن أسألك: كيف يكون شعورك وأنت واقف ’داخل‘ لوحة؟ كم من الملذات كنت لتكسبها لو أنك بالخارج؟ كم من المال كنت لتجمع، كم من الفتيات كنت تضاجع؟ وكم كم!
أعاني من الوحدة، والملل، وتنميل في الأطراف في حين تحكي المرشدة لمجموعة من السذّج عن الجهود المضنية التي بذلوها في ترميمي... كم واحد منهم يدرك حقيقة: ما أنا!
إنني سأفلت ذات يوم، وسأنشر الخيانة بينكم كما وصمتموني بها، وسأذكركم دائمًا: أن القديس (يهوذا) هو أخلص التلاميذ للرب... وأن خيانتي ما كانت إلاّ إخلاصًا؛ فلولاي.. لولا أن استشعرت خوف المسيح من أن يضعف فأسرعت بتسليمه للكهنة لما تحققت مشيئة الرب في أن يُصلب ويخلصكم من خطاياكم..
إنني أداينكم جميعًا وسأصبر حتى أتحرر وأطالبكم بالدين، فقط يستبد بي التوق حين أتذكر الطريقة التي كانت (ماريا) تناديني بها: "يا أبتي". cvbn
(تمت)
..............................................
و هكذا انتهت السلسلة الاولى من قصصى الرعب و انتظرونى مع ليلة مرعبة اخرى باذن الله تعالى و السلام عليكم و رحمة الله و بركاتة يا اهل برق الكرام =)
.................................
يوسف البرق .
2013 - 2014 - 2015 - 2016
sgsgm hgrww hgvuf (hgp.x 1 ) lk d,st hgfvr :) 2013 2014 2015
|