* صورة: http://up.graaam.com/uploads/imag-5/...eb97c10e09.png * *سدرة و أخرى هكذا سمتها هي ..* * كسيحة شائكة أوراقها .. تسامر ضوء القمر وتبث همومها مع خيوط الفجر الاولى .. تتأوه أغصانها برياح هائجة تستنزف اوجاعها بكل ارتعاشة خريف خانقة ..* * تلك سدرتها , تعيش حولها , ويخلو ذلك المكان...
كسيحة شائكة أوراقها .. تسامر ضوء القمر وتبث همومها مع خيوط الفجر الاولى .. تتأوه أغصانها برياح هائجة تستنزف اوجاعها بكل ارتعاشة خريف خانقة .. تلك سدرتها , تعيش حولها , ويخلو ذلك المكان من أي صخب عدا الحزن الذي تتنفسه شذرات التراب كلما سقطت وريقة صفراء معلنة استسلامها بحنق و هي تنتظر لحظة ان تنتشلها أيدي الظلام نحو اللا مكان حيث لا زمان و لا حياة.. كعادتها كل يوم يتجمع حولها الأطفال لتبدأ بسرد حكاية من حكايات السدرة الأسطورة بطريقة تذهلنا حينا و تضحكنا حين آخر ، هي وحدها قادرة على جعلنا في حالة ما بين التصديق و الذهول .. ما بين الخيال و خطى الواقع .. قصصها التي تتسم بالغرابة تحملنا إلى آفاق بعيدة .. آفاق حرة نحوم فيها كيفما شئنا و أردنا .. نصيرها كما نبغي و نحلم و نتمنى .. كما الفحم في مواقد كانون يشتعل باشتعال النار و الاحلام .. باشتعال الضجيج و أحيانا الهدوء .. هي الوحيدة التي لم أكن أسأمها أبدا و لا أضجر من سماع حكاياتها .. كنت أحب طريقة تحريكها لشعري و تنغيمها لانشودة الصباح التي لا زلت أتذكر كلماتها الممزوجة في الفضاء و التي تختلط برائحة العشب الأخضر و سيمفونية حفيف الاشجار .. شعور يحملك نحو السماء .. هو شعور آخر لا تعرفه سوى السدرة و هي .. كانت تغمض عينيها لتتذكر حكاية أو أقصوصة جديدة بينما نجلس حولها .. و أصير في ذلك الحين غارقا في قسمات وجهها الذابل و عيناها اللتان غشتهما انطفاءات الحزن .. سحنتها التي يخوض الشحوب فيها حربا مع الحياة .. كل شيء فيها ينطق بالبوح اللا متناهي عن الشيء المكنون في در قلبها .. لأتوقف عن تأملها مع آخر زفراتها التي تحمل لنا قصة زاخرة جديدة.. كل ذلك جعلني أفضل الاستماع إليها قرب ظلال الشجرة عن أي شيء آخر رغم تحذيرات أمي و تهديداتها المستمرة لي من عدم الإقتراب منها أو حتى الاستماع إلى ما تقوله فعلى حد قول أمي: ولدي إنها عجوز مجنونة لا أدري من أين تأتي بتلك الخرافات عن السدرة إياك والذهاب إليها !! .. و تهذي حانقة ببعض كلمات لا افهمها ثم ترحل عني و هي تعيد تهديدها بحرماني من كل شيء أحبه حتى من لحظات فارغة قد أستذكر فيها نصف ابتسامة ذات يوم.. و اقولها في نفسي :أولا يكفيها أنها ستحرمني الشيء الذي أحبه أكثر ,,؟ كنت أهز رأسي بالإيجاب و كأنني سألبي كل ما تقوله أمي .. و لكن ما إن تسنح لي الفرصة حتى ألوذ بالفرار مكتنفا ذلك المكان .. لأتخذ لي متكأ بقرب تلك العجوز حتى انتهز فرصتي بأن استمع لصوتها المبحوح الذي لا يكاد يصل الى أذني الصغيرة أحيانا لضجة باقي الأطفال.. نحن نكون بقربها في مكان , و تشيع هنالك القصص و الأساطير حولها والسدرة وتتراود بين هذا وذاك و كأنها حكايتهم التي لا تنتهي أبدا .. و تفاقمت المزاعم .. كل يروي شيء ما .. أحدهم يقول أنها ساحرة و الآخر يتهمها بالتدجيل .. حتى أتى حين عرفها فيه جميع من في الحي بــ ’’غولة السدرة’’ كانوا يحذروننا من لعنتها التي تحل علينا كلما جلسنا حولها و يختلقون روايات تبث الرعب في نفوسنا حتى نأبى أن نذهب إليها .. و قيل و قيل .. كنت أستمع بصمت يقتلني .. حتى أتى حين لزم فيه الأطفال بعدها بيوتهم ليكتفوا بهذيان الدمى الصامتة و يغلقون أبواب الحكايا .. أصبح المكان خاليا إلا منها تشكو وحدتها و تستنشق الحزن المتندي بالوحشة .. صرت ازورها بين فينة و أخرى متخفيا عن أنظار أمي التي كانت تنشغل بالأعمال المنزلية .. كنت أجلس بقربها اتأمل صفحات وجهها الحزين .. عيناها الفستقيتان وجهها الذي يغرق في الحزن يوما بعد آخر حتى يموج فيه فلا يجد سوى من يغرقه في الهم أكثر .. و تبدأ بسرد حكاية جديدة بعد أن تتنهد بتنهيداتها الأخيرة و هي تستذكر شيئا ما من أمنياتها الضبابية الضائعة .. تمر ليال و أيام على نفس الحال لتكتشف أمي أيضا أنني أذهب إلى هناك دون علمها لتنتشلني من بين اغصان السدرة و هي تنظر إلى الجدة بنظرة تهديد .. على الأقل هذا ما قرأته في ملامح أمي حينذاك.. و منذ أن عدنا للمنزل حُبستُ في غرفتي أهامس نفسي والجدران ببوح يكاد يلامس أوراق السدرة المصفرة بعد أن حصلت على تقريع و تأنيب لم أجد له مبررا و لكنني كنت اكتنف الصمت اكتنافا كمن يأبى أن يتخلى عن صديقه الصدوق .. يومها مسحت قطرات الندى المتكتلة على نافذة غرفتي بكفي الصغيرين و صرت أنظر نحو تلك العجوز بعين أخرى ! .. كم هو مؤلم ذاك الشعور بأن تكون منبوذا و كأنك في منفى منعزل رغم وجودك حول الآخرين .. جربت أن أضع نفسي مكانها .. ياه لم أكن لأحتمل و لو القليل .. كيف لها أن تبتسم بينما يقابلها الجميع بتكشيراتهم كل يوم !!.. و أعدت نظري اليها و أنا أوقف تفكيري .. كانت تغزل خيوطا من القِنَّبِ و تربطها حول السدرة زاعمة أنها تجلب الحظ وتحقق الأماني التي لا تعرفها إلا خيوط الشمس و لا تبوح بها سوى للقمر ليحفظها بين طيات تلك الثقوب التي تحويه .. فما إن تتمنى أمنية و تربط الخيط مغمضا عينيك حتى تحقق جنية السدرة أمنيتك في عشية كل عيد .. كانت تقول هكذا لتجعل نفسها محط ضحك الجميع و سخريتهم إلا أنا و بعض من رفاقي .. شيء ما كان يربطنا بها و يجعلنا مصدقين لما تقوله و لربما كانت أمنياتنا و أحلامنا المنقوشة بالورد في ذلك العمر.. كنت أود لو أجرب ربط خيط حتى أتوه عندها في احلامي .. لكثيرة هي !.. صرت أعد الايام و الثواني حتى تمضي و يأتي ذلك العيد الذي صار يسرق مني لحظاتي بخفة ليصبح شغلي الشاغل .. و لم يتبق بعدها من الزمن إلا يوم واحد و قد أخذ ما أخذ مني ثم رحل حاملا معه انتظار طال و اشتياق أنهك من قواي حتى النخاع .. و أتى العيد .. أتى حاملا بشراه ,, حاملا شغف ملون لكل فرد منا و أحلام ! .. كل مضى سعيدا في ارجاء قريتي يلقي التحية على أحدهم و يهنئ الآخر .. أما انا فكان أول شيء فعلته في أصبوحتي هو أن تسللت إلى هناك بقرب السدرة تماما .. هنأت جدتي بالعيد ثم التقطت خيطا أزرقا كأمنيتي التي كانت تنافس السماء في صفائها و تهمس في اذن المياه بشفافيتها وعفويتها لتقارن نفسها و هما .. أيهم أكثر زرقة ؟! .. أغمضت عيني وربطت خيطي حول السدرة متمنيا أمنيتي التي اخترتها من بين شتات الأمنيات الكثيرة بعد أن طالت الليالي بي و الأيام .. و هممت بالذهاب بينما ودعتني جدتي بابتسامة و التقطت خيطا و ربطته هي الاخرى .. أظنه كان متشحا بالسواد يتخلله شيء من النور .. لوحت لها و انطلقت مع رفقتي لنستأنس بالعيد .. حل العشاء و لم تمر دقائق حتى جلبت لي أمي الحذاء الذي يخرج أصواتا و هو ما رفضت أن تشتريه لي سابقا بحجة غلو ثمنه في ذلك الوقت و الذي تفحصته اعين رفاقي بشيء من التحسر و الغيظ .. هم كذلك أطفال كأنا .. أحلامنا عادة ما تكون مشتركة رغم الفوضى التي تتخللها أحيانا .. حتى هجائياتنا المتراقصة مع انغام زخات المطر مشتركة كذلك .. و تساءل بعضهم – رفاقي - عما إذا كانت هي أمنيتي أم لا .. فتذكرت حينها لحظة ربط جدتي – عجوز السدرة - للخيط فانتابني نوع من الفضول لمعرفة أمنيتها .. تجاهلت كل الأسئلة و عدت إلى هناك حتى أسألها ,, و ليتني لم أذهب لأجد حطامها .. صورتها لا زالت تقبع في مخيلتي كما طيف يجيء ثم يرحل في شريط سينمائي قصير .. أتذكرني و أنا أنظر إليها كانت مغمضة الجفن تكسو سحنتها الصفرة و الوجع ملامحها كانت تبدو و كأن يد الزمان انتشلتها لتبدو غير مرئية شعرها الأبيض الذي يفترش الأرض قد صار رمادا أنهشته النيران و من خلف كل ذلك كانت إبتسامتها كانت تلون وجهها الحاسر بشكل مريب لتلمع في مقلتاي زجاجية متشظية .. بكيت حينها و كنت لأول مرة استشعر نداوة البكاء فوق خداي.. ذرفت دموعي بحرارة إلى أن تقرحت عيناي و أصبح فيهما شيء من القيح فلم تبح لي السدرة بالامنية و لا القمر .. فقط ارتسمت من خلف دموعي زهرة لا البدر يقوى على مفارقتها و لا ظلاله خشية ان يستنزفها الحزن كما السدرة .. أتذكر ذلك اليوم جيدا بكل تفاصيله المعتمه .. دفنت هي و اندفنت بعدها كل الامنيات و الاحلام .. اندفنت الحكايات الجميلة و الانغام التي نعيش في ظلالها عند كل حرف من قصصها .. انطفأ بريق الحلم في عيني و ارتسم أمامي قبرها ضائعا بين زحام عبراتي التي اختنقت الصمت فاختنقها قأبت إلا أن تهطل و تبوح.. و حُرقت السدرة خشية الناس من لعنتها – كما يزعمون – حُرق آخر شيء يمكن أن يجعل ذكراها باقية .. لكنني و برغم أنه قد مضت على تلك الحادثة أربع و عشرين سنة كبرت فيها و كان من المفروض أن تطمس الحكايات الكاذبة حولها.. الا انني لا زلت أسمع همسات من أبناء قريتي : يبدو أن جنية السدرة قد أودت بها لكثرة أكاذيبها !! هكذا يروون لأبنائهم اليوم بهزل و أعجب لجهلهم ما هية مزاعمهم الباطلة التي يتفوهون بها .. الا أنني يا أبنائي لا زلت أعرف أنها تصدق بالأحلام والأمنيات فقد كانت تقول دوما : كل شيء في الدنيا يبدأ بأمنية .. ,, حتى نحن أنفسنا كبرنا تحت الأغصان المحفوفة بالأمنيات و الأحلام .. و بينما أنا اختتم الحكاية لأولادي الذين بات كل منهم يسأل سؤالا .. تأتي جدتهم – أمي – و هي تحمل اطباق الحلوى المختلفة و الفطائر والعصير .. لتبتسم في وجهي و هي تنظر الي بنصف عين ثم توجه لأبنائي حديثا وهي ترمقني : لا تستمعوا لوالدكم .. كلها ترهات فأي شجرة تحقق الأحلام ؟ قلت : و كما أقول و أكرر يا أماه .. ليست الشجرة من تحقق حلمنا بل نحن بالقلب الطاهر النقي و التصديق بتلك الاحلام نجعلها حقيقية حتى لو لم تكن ملموسة أولم يحقق حلم "سندريلا" حذاء ؟!! .. ضحكت و مسحت على رأسي كطفل صغير : ما زلت ولدي الحالم الذي لن يتغير أبدا.. و تهمس لي ابنتي الصغرى ذات غفلة من جدتها : أنا اصدق بأحلامي أيضا .. أظنها ستتحقق بعد أن تشتري لي ذلك الفستان و تلك اللعبة و ذلك الحذاء حتى أبدو كالأميرات و تذكرت أريد أيضا .... اطبقت فمها بكفي بلطف و بابتسامة قلت : كفى .. لا تصدقي بكل أحلامكِ إن كانت ستفلسني .. ضحكت و ضحك الجميع .. وعاد الضجيج .. ضجيج و ضجيج .. ضجيج على ضجيج .. أنهكت فلم أجد لحكايتي عنوان!